اميرة عبد الدايم
12-11-2015, 12:45 AM
الغواصة (21)
مقدمة
قصة الغواصة 21....بدأت تقريبا من يوم الثالث من أكتوبر إلي يوم العاشر من أكتوبر عام 1973.... الأحداث المكتوبة لاحقا ربما لم تقع أبدا كما هي مذكورة....ورغم أن كلمة "ربما" قد تجعلنا نفكر و نتوقع....إلا إنني شخصيا لم أتكلم مع أي فرد من الطاقم عن الأحداث التي جرت في هذه الفترة الحرجة من تاريخ مصر....فالقصة قد تكون خيالية تماما....و لكنها أيضا حقيقية لأقصى درجة....في النهاية هي تجربة إنسانية لبحارة مصريين مقاتلين في زمن حرب 1973....ارتضوا عن طيب خاطر أن تكون حياتهم فداء لوطن.... ليس كأي وطن....بل هي مصر....و كفى بمصر من وطن.
إلى أبي الذي علمني الكثير و كلما ازداد بي العمر كلما قنعت انه كان طراز فريد من الرجال....و كان افضل ما علمني أبي هو حب الوطن....نعم....فحب مصر ملء عليه حياته و لم يضن عليها حتى بحياته لو كان له الاختيار.
الغواصة 21– 1
الرابع من أكتوبر سنة 1973
نظر الضابط الشاب "علي" أمامه يراقب الأفق المظلم اللامتناهي ....و هو يرتدي المعطف الثقيل الواقي من الأمطار و ممسكا بمنظارمكبر يشعر ببرودته على وجهه....و يكاد يرى بصعوبة الموج المتكسر أمامه في ذلك الظلام الموحش.... و الذي يرسل رذاذا باردا من ماء البحر على وجهه مختلطا بالمطر المتساقط....يبحث بدأب عن قطع بحرية قريبة قد لا يلتقطها الرادار....مع الوقت يتردد قليلا للنظر خلفة كأنه يستحي.... وكأنه يشعر بصوت خفي يناديه....و يقرر أن يلقي بنظرة سريعة إلى الوراء.... ليرى ما يشبه عقد اللؤلؤ لأضواء متراصة ومتلألئة عن بعد في الأفق المظلم البعيد....تخفت أحيانا و تسطع أحيانا كأنها بغرابة شديدة تناديه....إنها أضواء الإسكندرية التي تبتعد و كأنها تلوح له قائلة "مع السلامة" بطريقتها المميزة....و كم هي مميزة و جميلة الإسكندرية.... مصدر فخرة و اعتزازه و المكان الذي ترك به قطعة من قلبة و فلذات كبدة....يتذكر و هو يودعهم من أيام قليله وهو ينظر اليهم....ابتسامة الأمل و الرجاء من زوجته الشابة التي تخفي قلقا في الأعماق و ابنه الذي بنظراته مزيج من الحيرة و الخوف.... و ابنته الصغيرة بضحكاتها الملائكية الساحرة....كأنها الحياة مقبله عليه بوعود بالحب و الأماني و السعادة و النصر....و يشعر للحظات كأن هناك دمعة من اشتياق تطلب الإذن للنزول من عينه و لكنها لم تفعل و كأنها لم تجرؤ....و يعاود للنظر للأمام باهتمام و حماس و هو يتنفس عميقا رائحه البحر و ما أجملها من رائحة....ممتنا للحب الذي يربطه بالبحر و بأمواجه و حتى بالسماء الحالكة فوقة المتلألئة بالنجوم....و يشعر في قرارة نفسة انه لم يكن ليتمنى أن يكون بأي مكان أو زمان أخرين....كما لم يكن يحلم بشيء أخر غير أن يدافع عن بلده....و كان الفجر قد اوشك و معه يجب أن تبدأ الغواصة 21 بالنزول إلى عالمها الخاص تحت الأمواج....و جاءت له التعليمات من القائد على النداء الداخلي "جهز الغواصة للغطسفورا"....و شعر بدفق من الأدرنالين يضخ في دماؤه بقوة و تسارعت نبضات قلبة و أنفاسه و هو يأمر بإيقاف محركات الديزل و تشغيل المحركات الكهربائية....و يقول في كلمات مقتضبة و هو ينزل على السلام الشبة عمودية إلى قسم القيادة بالأسفل " أغلق كل الفتحات وأبدأ الغطس لعمق 30 متر بزاوية 5 درجات و باتجاه شرق- شمال شرق.....اغطس.. اغطس.. اغطس"....يسمع جرس الإنذار و تضئ الأنوار الحمراء....و تبدو الغواصة من الداخل كخلية نحل....كل فرد في الطاقم يعلم ما يفعله و ما سيقوم به....و يأخذ "علي" موقعة بجوار القائد ناظرا باهتمام إلى العدادات و الأدوات المحيطة قائلا " افتح خزانات الغطس" و يرددها خلفة مسؤول الخزانات" فتحت خزانات الغطس يا فندم"....و يشعر كانه لا يريد أن يصدق من أعماقه....ويحلم أنه ربما....فقط ربما....أنه اليوم الذي طال انتظاره من سنين....يتوقع أن تصلهم رساله لاسلكية سمعها من قبل مرات عديده...."إلى الغواصة 21 قم بفتح مظروف المهمة في سعت 06:00"....ليقرأها القائد بأن المهمة هي – كالعادة - تدريبيه....فاتجه ناحية الغرب أو ربما إلى الشمال....إلى موقع ما بإحداثيات محددة و عد إلى الإسكندرية بعد أداء التدريبات المتفق عليها في اليوم المتفق عليه"....و لكنه اليوم يشعر بشيء مختلف....فاتجاههم المبدئي هو الشمال الشرقي!....تأخرت رساله قيادة القوات على غير العادة حتى اليوم التالي أو هكذا ظنوا....ثم أخيرا وصلت بعد قلق و انتظار....و طلب القائد بعقد اجتماع في استراحة الضباط ...."الميس"....و فتح المظروف و بدا على نظرات القائد الذهول و القلق و الحماس معا و هو يقرأ الخطاب أولا في صمت....ثم قرأ بصوت مسموع "أوامر القيادة العليا....إلى الغواصة 21 اتجه فورا إلى القطاع "س 14" و قم باعتراض و تدمير أي أهداف متجهه إلى ميناء "أشدود" المعادي أو خارجة منه....و التزم بمنع الاتصالات تماما مع القاعدةإلا حسب الجدول الزمني المرافق....ستقوم الغواصة 24 بتسلم القطاع منكم في يوم 9/10 أكتوبر بعدها تعودون إلى الإسكندرية....وفقكم الله....الله والوطن و تحيا مصر"....قبل أن ينهي القائد القراءة كانت يد "علي" قد امتدت إلى رف به العديد من الخرائط و فتح واحدة منهم لدراسة القطاع المذكور....و الذي كان يحفظ موقعة عن ظهر قلب و لكن فقط ليتأكد ....نعم انه داخل عمق المياه الإقليمية للعدو و أمام مدخل الميناء....و زفر من أعماقه قائلا "الحمد لله....أخيرا"....شعر بعواطف جياشة لم تمر به من قبل في حياته....تلاحقت الصور و المعاني و المشاعر في عقله كأنها فيلم سينمائي....صور قديمة عن المستعمر الذي كان يحتل مصر و مازال يتذكر كيف كان يرى جنود الاحتلال يمشون في شوارع و هو مازال طفلا....و والده و هو يحكي له في صغرة عن الحروب التي خاضها في فلسطين سنة 1948....و ما عاشه أثناء شبابه من أحداث الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956....و المعارك البحرية التي خاضها و زملاؤه في 6 سنوات ماضية....ونكسة عام 67 و زملاء وأصدقاء له قد اصبحوا شهداء اليوم و هم في عمر الشباب....أحداث تاريخية فارقة مرت بها مصر و شعبها في الخمسة و عشرون سنة الماضية....أسفرت عن انتصارات و خسائر و دموع....و عن غيرة ورغبة راودته منذ صغرة بأن يدافع عن مصر و يحميها من أعداؤها....فأراد أن يكون طيارا مقاتلا منذ صغرة و رفض لعدم اللياقة الطبية....و عن تقدمة للعمل في سلاح الغواصات....و رفض أيضا في البداية و قبل لاحقا بصعوبة....و أخيرا عن عدو غاشم قد أن الأوان ليدفع الثمن مضاعفا عن كل تجاوزاته ضد وطنه مصر .........
الغواصة 21– 2
دارت تلك الخواطر في ثوان قد مرت علية.... و سحب القائد الميكرفون وهو يطلب من المسؤول عن الاتصالات أن يطلق نداء داخلي لكافة أقسام الغواصة و قال...."ضباط و جنود الغواصة 21 جاءت لنا تعليمات من قيادة القوات بمنع و اعتراض سفن العدو الإسرائيلي من المرور في القطاع المواجه لميناء معادي....و كما تعلمون فنحن قد تدربنا كثيرا على هذه المهمة و لكن ما سيحدث في الأيام القادمة لن يكون تدريبا....بل سيكون حياة أو موت و مصير وطن يعتمد علينا و ينتظر منا الكثير....لأننا في الصف الأمامي لمعركة ستبدأ في أي وقت....معركة استرداد الأرض و عودة الكرامة و الثأر لإخواننا الذين سبقونا بالشهادة....الله....الوطن....و تحيا مصر" و انطلقت صيحات السعادة و التكبير في كافة أقسام الغواصة....بعدها طلب القائد من "علي" أن يغير اتجاه الغواصة إلى إحداثيات القطاع المطلوبة و بسرعة 8 عقدة في الساعة و التي من المقرر أن يصلوها بعد أقل من 24 ساعة في جناح الليل....يراجع "علي" الخرائط الملاحية بدقة و يقارنها كل ربع ساعة بموقع الغواصة الفعلي و يتأكد من كونها على المسار المحدد و المطلوب و يتأكد من ابتعادها عن خطوط الملاحة المعروفة و عن أماكن تواجد قطع الأسطول السادس الأمريكي في المنطقة....و التي عرفها عن طريق تقرير المخابرات العسكرية قبل الإبحار بساعات....و يتذكر الحديث الذي دار بينة و بين قائد الغواصة في الاجتماع التحضيري للمهمة التي كانت وقتها تدريبية....وعن صعوبة تلك العملية و عن تعليق القائد أنها تعتبر عملية جريئة و حساسة....فالغواصة المصرية روسية الصنع من طراز يطلق علية "ويسكي" من قبل حلف الناتو....من إنتاج 15 سنوات ماضية و مطورة بالكامل حسب تكنولوجيا ألمانية من وقت الحرب العالمية الثانية.....و نتيجة لتدهور العلاقات السياسية بين القاهرة و موسكو مؤخرا و سحب الخبراء العسكريين الروس من مصر....تم وقف إمدادات قطع الغيار للغواصات منذ سنتين على الأقل....و نتيجة لذلك تضائل الأسطول المصري للغواصات من عشرة غواصات إلى غواصتين عاملتين فقط!....لأننا اضطررنا وقتها أن نستبدل أجزاء من غواصه إلى غواصه أخرى كقطع غيار لإبقائها عاملة....هاتين الغواصتين هما أمل مصر في مواجهة الأسطول الإسرائيلي الحديث التجهيز من جهة و الأسطول السادس الأمريكي الحليف لإسرائيل من جهة أخرى....الذي ينقل المعلومات الاستخباراتية بأمانة عن تحركات السفن المصرية الحربية في المنطقة....و بسبب نقص قطع الغيار فإن أداء الغواصة لا يمكن أن يوصف بأنه مرضي....و لكنه يرى في عيون الرجال عزيمة و شجاعة و إصرار و وحدة الهدف و يأمل و يرجو نصر الله و توفيقه....و من المعروف أن الغواصات تعتمد في قتالها على أسلوب الكمين....أي أن الغواصة تتقاطع مع مسار السفينة المعادية "الهدف" و تنتظر و تكمن حتى تكون في المدى المطلوب و تقوم بقصفها بالطوربيد من مسافة كيلومتر أو اكثر ثم تهرب إلى الأعماق....ولآن سرعة الغواصة المصرية تحت الماء اقل من 10 عقدة و على السطح 16 عقده (حوالي 20-32 كم في الساعة) و معظم السفن التجارية سرعتها اعلى من ذلك ....و سرعة الزوارق الإسرائيلية قد تصل إلى 35 عقدة (حوالي 70 كيلو في الساعة)....فان المعركة ستكون حسابيا خاسرة بالنسبة للغواصة المصرية اذا تم كشفها من زوارق العدو المجهزة بأجهزة السونار الحديثة....بالضبط كطفل يحاول أن يجري و يختبئ من رجلا بالغا كامل النمو....ناهيك أن يكون طفل مريض مثلا و الرجل بطل سباقات العدو....
مما يجعل المهمة شبة مستحيلة....ولخطورة المهمة و لضرورة إغلاق القطاع المطلوب....لن تكون الغواصة في وضعية الاختباء و الكمين كما هو مفترض....بل يجب أن تكشف عن نفسها لكل من في القطاع بما فيها البحرية الإسرائيلية و الأمريكية و تؤكد على تواجدها في المنطقة و في نفس تتفادي الاكتشاف أو الإصابة أو التدمير....أي أنها ستطفو على السطح حتى في الصباح ثم تغطس و تناور و تقترب من السفن البعيدة كي تراها و يبلغوا بعضهم و يمتنعوا تدريجيا عن المرور بالمنطقة....و لن يخطر ببالهم أن تلك الغواصة في حالة متهالكة للقتال أو على الأقل هذه هي الخطة الجريئة و للبعض قد تعتبر انتحارية!....أما اذا تم اكتشافهم و تتبعهم من الزوارق الإسرائيلية....فالمسألة ستكون مسألة وقت فقط لتحديد مكانهم وتدميرهم.......و كانت إسرائيل قد تخلت عن أسطولها من المدمرات بعد تدمير إيلات سنة 1967 و استبدلتها بزوارق أمريكية سريعة تستخدم في مكافحة الغواصاتتسمى "دبور" مجهزة بقذائف أعماق......
الغواصة 21– 3
ساعات قد مرت و قد بدت كأنها دهورا متعاقبة لا تنتهي....تتابع فيها الأوقات و تتشابه....كأمواج البحر المتعاقبة.... وتختلط فيها الأشكال و الوجوه....و الأماني و الأحلام و الخوف و الرجاء....و يشعر كلا منهم بأن هذا اليوم كأنه حياة كاملة سيعيشها....كأنه اليوم الذي ولد من أجله....و يشهد مرور أحداثه المتلاحقة....و يأمل بأفضل نهاية ممكنه عند غروب شمسه....ومثلهم شعر "علي" بانه يتعجل الوصول إلى مكانبعيد و غريب و معادي ولكنه يعرفه تماما و يكاد يلمسه بيديه ....و يعود بالذاكرة لسنوات أربعة ماضية لما كان يطلق علية حرب الاستنزاف....و قتها كان في مهمة على غواصة أخرى....و هي مهمة استطلاع لنفس الميناء "أشدود"....وهذا الميناء الحربي التجاري الذي هو الأقرب لسيناء بمسافة تقل عن 100 كيلو عن الحدود مع مصر....و الذي يصلح تماما للإمدادات العسكرية الثقيلة بالسفن من حلفاء إسرائيل في حالة الحرب....و لم يعلم وقتها ما هو الغرض الاستراتيجي لمهمة الاستطلاع....هل كانت لقياس مدى جاهزية العدو و أجهزة الرصد لدية؟....أم أنها لدراسة دفاعاته و مبانيه؟....أم أنها تجميع لمعلومات استخباراتية تمهيدا لانزال بري و احتلال الميناء؟....لم يعرف احد لليوم....و لكن ما حدث وقتها....أن الغواصة المصرية اقتربت من الساحل المعادي لمسافة لم تحدث من قبل لدرجة انهم كانوا يروا الجنود يتحركون على ارصفه الميناء و يدرسوا نشاطهم اليومي....و قاموا بالتقاط الصور لكل الميناء و منشأته و دفاعاته بدقة متناهية....و استمروا في مهمتهم لأسبوعين كاملين دون أن يكتشف وجودهم العدو....و يا له من إحساس جميل من الصعب وصفة عندما تشعر انك الأعلى و الأقوى في معركة الحياة و الموت و الكرامة المهدورة....ولاحقا عندما عادوا إلى الإسكندرية....تم استقبالهم استقبال الأبطال وتم تقليد كل فرد في الغواصة وسام الشجاعة من قائد القوات....و مع السعادة و الاحتفال بنجاح المهمة.... بقيت مرارة في داخله بالتأكيد لأنه كان تواقا إلى القتال الذي يعرفه و تدرب علية....و الذي كان وقتها كحلم من ضروب الخيال....القتال الحقيقي الذي يروى بالدموع و يسطر بالدم في كتب التاريخ....وللأسف اصبح قتال قد طال انتظاره حتى الملل.... و اصبح الكلام عن القتال مدعاة للسخرية بين جموع الشعب و مصدر لاستهزاء الأعداء مننا....و كم ظهر رئيس من رؤسائهم يتحدى مصر و شعبها أن يحاربوهم....و لكن كان هناك أضواء ضعيفة تكاد أن تومض في نهاية النفق المظلم الطويل و المرير....مثل إغراق المدمرة إيلات سنة 1967 و مدمرة أخرى كانت مرافقة لها أسمها يافو ....و التي قامت بغطرسة باختراق المياه الإقليمية المصرية شمال بورسعيد.... وعلى متنها بالإضافة إلى طاقمها المكون من 100 فرد.... كان معهم أيضا طلبة السنه النهائية للكلية البحرية الإسرائيلية في مهمة تدريبية!....في زمن الحرب و داخل مياهنا الإقليمية ؟ و يا له من استهزاء و استهانة و غباء....و ترقد الأن إيلات في أعماق البحر على بعد 12 ميل بحري شمال شاطئ بورسعيد....و كذلك تلك الأخبار التي تروي عن أحداث قد باتت كالأساطير....عن ما يقوم به بطريقة منتظمة مجموعة من جنود الصاعقة المصريين على خط القنال....كانوا يعبرون القناه في جناح الظلام على متن قوارب مطاطية....و يشتبكون مع العدو الموجود في مواقعة المحصنة على الضفة الشرقية بأسلحة خفيفة ....و يعودون بالأسرى موثقين إلى الضفة الغربية و بالمصابين و في بعض أحيانا عائمين بعد إصابة قاربهم.... و بعد أن تكون الرسالة قد أصبحت واضحة و جلية و مؤلمة للعدو....بأنه لا أمن ولا أمان لكم على ارض مصرية أبدا....و مصر ستكون كما كانت دائما....مقبرة للغزاة..........
الغواصة 21– 4
طلب القائد من "علي" أن يتفقد أقسام الغواصة بنفسة للتأكد من جاهزيتها للقتال....و تحرك من قسم إلى قسم في الغواصة الذي طالما شعر كأنها بيتة الثاني إن لم يكن الأول .... يتابع بطريقة روتينية بعض الأجهزة و العدادات....و يتأكد من قراءتها و أوضاعها و يختبرها ما أمكن....و يلتقي و يتحدث إلى رجال (http://www.alhaqlah.com/showthread.php?t=84905) الطاقم الذين يعلمهم بالاسم فردا فردا....و يعلم من أي مدينة أو قرية قد أتوا....75 ضابط و جندي.... ينظر إلى وجوههم ....منهم من يبتسم.... و منهم من يتمتم بكلمات لا تكاد تتعدى شفتيه....و أخرين يبدوا متماسكين وهم ينظرون إلى المجهول أو مشفقين منه....و كلهم مشغولون بما يفعلون....في قسم المحركات يتكلم مع "محمد" قليلا و يربت على كتفة ويشجعه....و يصل إلى قسم الطوربيد في المقدمة.... يداعب "إبراهيم" بنكت قديمة سمعوها قبلا 100 مرة....و ينصرف قائلا له "إحنا معتمدين عليك يا وحش"....و في قسم السونار يقترب من "مينا" و يسأله عن اسم ابنته التي رزق بها قبل الإبحار بساعات ؟....و يرد عليه قائلا " أسميتها مريم" و يبتسم و يبارك له....ويكمل طريقة ليعطي بعض التعليمات هنا و هناك ليتأكد من معنويات البحارة و جاهزيتهم للقتال....فهو يعلم أنهم يقتربون بسرعة من منطقة العمليات....و يجب أن يكونوا في أعلى درجات الجاهزية و الاستعداد....و أثناء تفقده لقسم الملاحة يلاحظ أن "كرم" يبدو متوترا فيقترب منة و يقول" مالك يا كرم" "أبدا يا فندم بس...." " بس إيه ....قلقان.؟ " " قال بصوت مرتعش هامس " أيوة يا فندم خايف ما اشوفش أولادي تاني" فرد "علي" " اللي كاتبة ربنا حا نشوفه و لكن قبل ما نشوفه و إحنا راضيين لازم ننفذ مهمتنا....و نرضي ضميرنا قبل ما نقابل ربنا"....فنظر إليه "كرم" و قد تغيرت نظراته إلى شيء من العرفان و التحدي " ونعم بالله يا فندم" ....و فجأة لاحظ "علي" فوق باب مدخل القسم الذي يليه ....لاحظ ضوء إنذار حمراء بدأ يومض بطريقة متقطعة و صامتة....و تسارعت دقات قلبة باطراد.... فهو يعلم بأن الضوء يعني بأن هناك إنذار لوجود هدف معادي قريب أو خطر محدق....و تعني بوجوب عودته حالا إلى قسم القيادة على الفور....ربت "على" كتف "كرم" مشجعا و أسرع إلى قسم القيادة....لا أعلم ماذا كان يدور في ذهن "علي" وقتها هل كان متوترا؟ هل كان خائفا؟....هل تذكر زوجته و أولاده؟ هل كان متحمسا جدا أم كان هادئ؟....هل فكر في حبة لبلدة و شرف الدفاع عنها؟....ربما لن نعرف ابدأ و لكن ما أتوقعه أنه كان هادئ جدا و دقيق جدا و لا يخلط بين عمله و عواطفه الشخصية....و كان دائما يحاول أن يكون في الصف الأول للدفاع عن بلده مصر....طيار مقاتل....ثم ضابط غواصات....و هكذا كان دائما يبحث عن الأصعب و الأخطر في المقدمة....و يبدو أن إنجازات حياته قد وصلت إلى أوجها اليوم....و هو على بعد أميال معدودة من الحدود البحرية للعدو ..........
الغواصة 21-5
الخامس من أكتوبر سنة 1973
و لأن الوقت كان ليلا عندما وصلت الغواصة 21 للقطاع "س14" المطلوب و ذلك إمعانا في التخفي....و هو تقريبا وقت الإنذار....كانت الغواصة تبحر على السطح في اتجاه الشرق و بسرعة 14 عقدة و هو الاتجاه المباشر المؤدي لمنطقة العمليات....و فور وصوله إلى قسم القيادة أعلن "وصل القائد الثاني للغواصة إلى قسم القيادة".... ذهب مباشرة إلى مكان جهاز الرادار حيث كان القائد متواجدا و بعد تحية القائد...سأل المشغل...."بلغ المعلومات لو سمحت ؟" فرد علية المشغل " هدف على بعد 20 ميل بحري في اتجاه 75 درجة يبحر بسرعة 20 عقدة في اتجاه الشمال الغربي....غالبا سفينة شحن تجارية....يبدو من اتجاه الحركة أنها كانت خارجة من ميناء أشدود"....يقوم القائد و "على" بفتح خريطة المنطقة و تحديد موقع الغواصة و موقع الهدف المحتمل و إجراء بعض الحسابات....و يقول القائد بنفاذ صبر "بعاد أوي و على بال ما نلف وراهم حا يبعدوا اكثر و حا يكون مستحيل الاشتباك معهم"....فيقول "علي" بحماس " اقترح أننا نقترب منهم ما امكن و نقوم بإضاءة بعض الأنوار الخارجية للغواصة حتى يلاحظونا و يبلغوا عن وجودنا؟"....فينظر إليه القائد و يسأل "و لو كانت قطعة حربية " فيرد "علي" "لو ظهر أنها قطعة حربية سنغطس و نبدأ في تطبيق مناورات التملص و التخفي"....فقال القائد " توكل على الله....إبدا بتحديد مسار للاعتراض"....و يأمر بإعلان لكل الأقسام باتخاذ مواقع القتال و يرن جرس الإنذار....و بعد ثواني يطلب "علي" من مشغل الدفة أن يدور بالغواصة في اتجاه 315 درجة شمال غرب و أن يستخدم السرعة القصوى و التي يتذكر بمرارة إنها لن تزيد عن 16 عقدة و إلا سيتعطل المحرك و قد يتوقف عن العمل تماما ....كانت الخطة أن تقرب الغواصة من الهدف إلى حوالي مسافة 6-8 أميال بحرية على الأقل ليتم اكتشافها من السفينة المعادية....و التي ستقوم عندها بإبلاغ قيادة ميناء العدو بتواجد غواصة في المنطقة و هذا هو المطلوب تماما....ويفكر علي بمرارة في هذه اللحظة أنه لو فقط كانت الغواصة متطورة أكثر لتمكنوا من اللحاق بالسفينة و الاشتباك معها....و في نفس اللحظة وصله اتصال من مهندس الغواصة يبلغه - كما كان يخشي- بأن المحركات ارتفعت حرارتها جدا و أن السرعة انخفضت إلى 14 عقدة و مازالت تنخفض!!!....و تكلم مع القائد و رغم قربهم من الساحل إلا انهم قرروا أن يضيئوا أنوار الغواصة كلها لكي ترصدهم السفينة....رغم الاحتمال أن يتم رصدهم أيضا من الشاطئ القريب المعادي و أن يتم قصفهم بالمدافع الساحلية أو الصواريخ....و تم إضاءة الأنوار مع تتبع السفينة المعادية....و وضح من الدقائق الأولى أن السفينة قد رصدتهم و غيرت اتجاهها و زادت سرعتها للابتعاد عنهم....و بعد 15 دقيقة صدر الأمر من القائد " أغطس حالا إلى عمق البيرسكوب و اتجاه 95 درجة" لان هذا الاتجاه هو اتجاه الميناء تقريبا و هو اتجاه من غير المتوقع أن يسلكوه....و اقتربوا اكثر من الشاطئ و من مدخل الميناء....و وجه "علي" البيرسكوب إلى اتجاه مدخل الميناء و لمح بطريقة شبه مستحيلة في الظلام ما يظهر انه أولا جسم داكن خارجا من الميناء ثم أصبحوا جسمين سريعين يبحران في اتجاه سفينة الشحن و مبتعدين نسبيا عن الغواصة....و في نفس اللحظة قام "علي" بعد استشارة القائد بعمل نداء داخلي يطلب من كل الضباط و البحارة أن يلتزمون الهدوء التام مع إيقاف المحركات تماما و توفير استخدام الطاقة المعتمدة على البطاريات....و بعد محاولات صعبة لرصد القاربين السريعين للتأكد من اتجاههم فوجئ "على" أن هناك قارب ثالث يقوم بتمشيط المنطقة و يقترب منهم بسرعة....و بعد إبلاغ القائد تم إصدار الأوامر بالغطس لعمق 75 متر بأقصى سرعة ممكنه....و رغم أن الغواصة من الممكن أن تغطس لعمق 200 متر حسب تصميمها....إلا أن نصيحة المهندسين الموجودة في كتيب التشغيل....كانت بألا يتعدى العمق ال 125 متر للحالة المتهالكة للغواصة....و أصدر القائد أوامره إلى مشغل السونار بتعقب القارب المعادي المقترب و إبلاغه أول بأول بتحركاته..........
الغواصة 21-6
مرت ساعات بطيئة و كل من بالغواصة يلتزم الصمت إلا من تقارير تصل لقسم القيادة بأصوات خافتة....من قسم السونار عن تحركات السفن على سطح البحر أومن الأقسام المختلفة للإبلاغ عن أعطال تتزايد و بدأت أن تكون مقلقة أو أوامر بالحركة البطيئة لمشغل دفة الغواصة لتغيير الاتجاه بهدوء شديد للابتعاد عن قوارب العدو على السطح....و وضح مع الوقت أن القوارب قد ابتعدت عنهم و انهم قد توقفوا عن البحث عنهم للأن....بعدها أصدر القائد الأوامر بصعود الغواصة إلى عمق تشغيل البيرسكوب أولا للتأكد مع عدم وجود قطع معادية في المنطقة المحيطة....ثم بعدها أمر بالطفو لعمق فتحات التهوية لتشغيل محركات الديزل لشحن البطاريات مرة أخرى حيث انه تبقى على بزوغ ضوء الفجر حوالي الساعة أو أقل....و كما هو معروف في النهار تغطس الغواصة و تستخدم البطاريات لتحريك محركاتها الكهربائية و في الليل تطفو الغواصة على السطح و تشغل محركات الديزل للحركة و لشحن البطاريات مرة أخرى....و بعد إنهاء الشحن تم الغطس الكامل مرة أخرى إلى عمق البيرسكوب للبحث عن أهداف معادية و التحرك بالمنطقة حسب الخطة....و استغلال الوقت لساعتين راحة.... لاحقا طلب قائد الغواصة الاجتماع مع الضباط في "الميس" لدراسة كل الأحداث التي مروا بها للأن و تبعاتها و استراتيجية الأيام المقبلة في ضوء خطة العمليات الموضوعة....و بدأ القائد الحديث قائلا بصوت منخفض "الحمد لله وصلنا للقطاع المطلوب حسب الخطة و الزمن المحددين و تم محاولة اعتراض هدف على السطح كان مبحرا من الميناء المعادي....و تم الإعلان عن وجودنا و عرف العدو بنشاطنا في المنطقة....الغواصة في حالة مستقرة و معنوياتنا في اعلى مستوى....بالتأكيد في الساعات و الأيام المقبلة سيحاول العدو بمختلف الطرق أن يحدد موقعنا و يشتبك معنا....يجب أن تستمر الغواصة في مناورات مستمرة مع تغيير الاتجاه و العمق بصورة منتظمة....و هذا سيضع الرجال تحت ضغط كبير....قسم الهندسة يجب أن يقوم بتحديد الأعطال أول بأول و تصليحها بأسرع ما يمكن و إعادة تجهيز الغواصة بصورة مستمرة....و الخطة المتفق عليها هي أن نطفو بالغواصة قبل الغروب لفترة محدودة قرب مدخل الميناء و نعاود بعدها التحركات المتفق عليها....أي سؤال؟...." طلب مهندس الماكينات الإذن بالكلام " يا فندم....البطاريات لا تشحن اكتر من 75% من طاقتها مقلله ساعات التشغيل إلى حوالي 6 ساعات فقط ومضخة الهواء رقم 3 معطلة من قبل خروجنا من الإسكندرية مما يعني أن سرعة الغوص و الطفو ستزيد بمقدار 25% على الأقل عن المعدل المطلوب و محرك الديزل يسرب زيت بصورة كثيفة و يتزايد و لا يعطي سرعة اكثر من 12-14 عقدة و يوجد مياه متراكمه في السطح السفلي للغواصة عمقها حوالي 30 سم و تتزايد.....أنا أخشى أن تتوقف الغواصة كليا عن الحركة في خلال 24 ساعة اذا استمرت الأعطال في بهذه الصورة....و أخشى أن معدلات الغوص أو الطفو ستكون اقل بكثير من المطلوب و بالذات في حالات الطوارئ و الاشتباك"....رد القائد "اعمل إلي تقدر علية و ربنا معانا"....طلب "علي" الإذن في الكلام و سمح له القائد " يا فندم فيه 3 مطارات حربية حول الميناء....يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه يوجد احتمال كبير أن تقوم طائرات هليكوبتر بالبحث عنا و تهاجمنا في الصباح اذا اقتربنا من السطح....أقترح أن تكون المناورات في النهار على شكل غوص إلى عمق 50 متر لمدة نصف ساعة ثم الطفو لعمق البيرسكوب لمدة 5 دقائق ثم الغوص مرة أخرى و تغيير الاتجاه و هكذا و بعد دراسة نمط البحث الذي يتبعه العدو من الممكن أن نغير التكتيك حسب الحاجة"....ابتسم القائد و قال له "ممتاز يا علي آنت فعلا بقى يعتمد عليك" و رد علي " شكرا يا فندم" و تذكر "علي" وقتها أن هذا القائد الذي يبلغ ضعفة في العمر هو من علمه تقريبا كل ما يعرفه عن حرب الغواصات منذ أن كان طالبا بالكلية البحرية....و دائما ما اعتبره مثلة الأعلى و أخية الأكبر و استحق حب و احترام كل من عرفه أو عمل معه في سلاح البحرية....و هو من رشحه كقائد ثاني على الغواصة....و اليوم كلمات الإطراء من القائد... يشعر معها بمزيد من التفاني و التضحية و البذل....و هذا ليس بمستغرب على أبناء مصر....انتهى الاجتماع بسرعة....و انطلق كلا منهم إلى ما يبدو انه عاطفة اكثر منها التزام....و احترام اكثر منة تنفيذ أوامر....و عشق لوطن قد غلب ما عداه و بلغ منتهاه.........
مقدمة
قصة الغواصة 21....بدأت تقريبا من يوم الثالث من أكتوبر إلي يوم العاشر من أكتوبر عام 1973.... الأحداث المكتوبة لاحقا ربما لم تقع أبدا كما هي مذكورة....ورغم أن كلمة "ربما" قد تجعلنا نفكر و نتوقع....إلا إنني شخصيا لم أتكلم مع أي فرد من الطاقم عن الأحداث التي جرت في هذه الفترة الحرجة من تاريخ مصر....فالقصة قد تكون خيالية تماما....و لكنها أيضا حقيقية لأقصى درجة....في النهاية هي تجربة إنسانية لبحارة مصريين مقاتلين في زمن حرب 1973....ارتضوا عن طيب خاطر أن تكون حياتهم فداء لوطن.... ليس كأي وطن....بل هي مصر....و كفى بمصر من وطن.
إلى أبي الذي علمني الكثير و كلما ازداد بي العمر كلما قنعت انه كان طراز فريد من الرجال....و كان افضل ما علمني أبي هو حب الوطن....نعم....فحب مصر ملء عليه حياته و لم يضن عليها حتى بحياته لو كان له الاختيار.
الغواصة 21– 1
الرابع من أكتوبر سنة 1973
نظر الضابط الشاب "علي" أمامه يراقب الأفق المظلم اللامتناهي ....و هو يرتدي المعطف الثقيل الواقي من الأمطار و ممسكا بمنظارمكبر يشعر ببرودته على وجهه....و يكاد يرى بصعوبة الموج المتكسر أمامه في ذلك الظلام الموحش.... و الذي يرسل رذاذا باردا من ماء البحر على وجهه مختلطا بالمطر المتساقط....يبحث بدأب عن قطع بحرية قريبة قد لا يلتقطها الرادار....مع الوقت يتردد قليلا للنظر خلفة كأنه يستحي.... وكأنه يشعر بصوت خفي يناديه....و يقرر أن يلقي بنظرة سريعة إلى الوراء.... ليرى ما يشبه عقد اللؤلؤ لأضواء متراصة ومتلألئة عن بعد في الأفق المظلم البعيد....تخفت أحيانا و تسطع أحيانا كأنها بغرابة شديدة تناديه....إنها أضواء الإسكندرية التي تبتعد و كأنها تلوح له قائلة "مع السلامة" بطريقتها المميزة....و كم هي مميزة و جميلة الإسكندرية.... مصدر فخرة و اعتزازه و المكان الذي ترك به قطعة من قلبة و فلذات كبدة....يتذكر و هو يودعهم من أيام قليله وهو ينظر اليهم....ابتسامة الأمل و الرجاء من زوجته الشابة التي تخفي قلقا في الأعماق و ابنه الذي بنظراته مزيج من الحيرة و الخوف.... و ابنته الصغيرة بضحكاتها الملائكية الساحرة....كأنها الحياة مقبله عليه بوعود بالحب و الأماني و السعادة و النصر....و يشعر للحظات كأن هناك دمعة من اشتياق تطلب الإذن للنزول من عينه و لكنها لم تفعل و كأنها لم تجرؤ....و يعاود للنظر للأمام باهتمام و حماس و هو يتنفس عميقا رائحه البحر و ما أجملها من رائحة....ممتنا للحب الذي يربطه بالبحر و بأمواجه و حتى بالسماء الحالكة فوقة المتلألئة بالنجوم....و يشعر في قرارة نفسة انه لم يكن ليتمنى أن يكون بأي مكان أو زمان أخرين....كما لم يكن يحلم بشيء أخر غير أن يدافع عن بلده....و كان الفجر قد اوشك و معه يجب أن تبدأ الغواصة 21 بالنزول إلى عالمها الخاص تحت الأمواج....و جاءت له التعليمات من القائد على النداء الداخلي "جهز الغواصة للغطسفورا"....و شعر بدفق من الأدرنالين يضخ في دماؤه بقوة و تسارعت نبضات قلبة و أنفاسه و هو يأمر بإيقاف محركات الديزل و تشغيل المحركات الكهربائية....و يقول في كلمات مقتضبة و هو ينزل على السلام الشبة عمودية إلى قسم القيادة بالأسفل " أغلق كل الفتحات وأبدأ الغطس لعمق 30 متر بزاوية 5 درجات و باتجاه شرق- شمال شرق.....اغطس.. اغطس.. اغطس"....يسمع جرس الإنذار و تضئ الأنوار الحمراء....و تبدو الغواصة من الداخل كخلية نحل....كل فرد في الطاقم يعلم ما يفعله و ما سيقوم به....و يأخذ "علي" موقعة بجوار القائد ناظرا باهتمام إلى العدادات و الأدوات المحيطة قائلا " افتح خزانات الغطس" و يرددها خلفة مسؤول الخزانات" فتحت خزانات الغطس يا فندم"....و يشعر كانه لا يريد أن يصدق من أعماقه....ويحلم أنه ربما....فقط ربما....أنه اليوم الذي طال انتظاره من سنين....يتوقع أن تصلهم رساله لاسلكية سمعها من قبل مرات عديده...."إلى الغواصة 21 قم بفتح مظروف المهمة في سعت 06:00"....ليقرأها القائد بأن المهمة هي – كالعادة - تدريبيه....فاتجه ناحية الغرب أو ربما إلى الشمال....إلى موقع ما بإحداثيات محددة و عد إلى الإسكندرية بعد أداء التدريبات المتفق عليها في اليوم المتفق عليه"....و لكنه اليوم يشعر بشيء مختلف....فاتجاههم المبدئي هو الشمال الشرقي!....تأخرت رساله قيادة القوات على غير العادة حتى اليوم التالي أو هكذا ظنوا....ثم أخيرا وصلت بعد قلق و انتظار....و طلب القائد بعقد اجتماع في استراحة الضباط ...."الميس"....و فتح المظروف و بدا على نظرات القائد الذهول و القلق و الحماس معا و هو يقرأ الخطاب أولا في صمت....ثم قرأ بصوت مسموع "أوامر القيادة العليا....إلى الغواصة 21 اتجه فورا إلى القطاع "س 14" و قم باعتراض و تدمير أي أهداف متجهه إلى ميناء "أشدود" المعادي أو خارجة منه....و التزم بمنع الاتصالات تماما مع القاعدةإلا حسب الجدول الزمني المرافق....ستقوم الغواصة 24 بتسلم القطاع منكم في يوم 9/10 أكتوبر بعدها تعودون إلى الإسكندرية....وفقكم الله....الله والوطن و تحيا مصر"....قبل أن ينهي القائد القراءة كانت يد "علي" قد امتدت إلى رف به العديد من الخرائط و فتح واحدة منهم لدراسة القطاع المذكور....و الذي كان يحفظ موقعة عن ظهر قلب و لكن فقط ليتأكد ....نعم انه داخل عمق المياه الإقليمية للعدو و أمام مدخل الميناء....و زفر من أعماقه قائلا "الحمد لله....أخيرا"....شعر بعواطف جياشة لم تمر به من قبل في حياته....تلاحقت الصور و المعاني و المشاعر في عقله كأنها فيلم سينمائي....صور قديمة عن المستعمر الذي كان يحتل مصر و مازال يتذكر كيف كان يرى جنود الاحتلال يمشون في شوارع و هو مازال طفلا....و والده و هو يحكي له في صغرة عن الحروب التي خاضها في فلسطين سنة 1948....و ما عاشه أثناء شبابه من أحداث الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956....و المعارك البحرية التي خاضها و زملاؤه في 6 سنوات ماضية....ونكسة عام 67 و زملاء وأصدقاء له قد اصبحوا شهداء اليوم و هم في عمر الشباب....أحداث تاريخية فارقة مرت بها مصر و شعبها في الخمسة و عشرون سنة الماضية....أسفرت عن انتصارات و خسائر و دموع....و عن غيرة ورغبة راودته منذ صغرة بأن يدافع عن مصر و يحميها من أعداؤها....فأراد أن يكون طيارا مقاتلا منذ صغرة و رفض لعدم اللياقة الطبية....و عن تقدمة للعمل في سلاح الغواصات....و رفض أيضا في البداية و قبل لاحقا بصعوبة....و أخيرا عن عدو غاشم قد أن الأوان ليدفع الثمن مضاعفا عن كل تجاوزاته ضد وطنه مصر .........
الغواصة 21– 2
دارت تلك الخواطر في ثوان قد مرت علية.... و سحب القائد الميكرفون وهو يطلب من المسؤول عن الاتصالات أن يطلق نداء داخلي لكافة أقسام الغواصة و قال...."ضباط و جنود الغواصة 21 جاءت لنا تعليمات من قيادة القوات بمنع و اعتراض سفن العدو الإسرائيلي من المرور في القطاع المواجه لميناء معادي....و كما تعلمون فنحن قد تدربنا كثيرا على هذه المهمة و لكن ما سيحدث في الأيام القادمة لن يكون تدريبا....بل سيكون حياة أو موت و مصير وطن يعتمد علينا و ينتظر منا الكثير....لأننا في الصف الأمامي لمعركة ستبدأ في أي وقت....معركة استرداد الأرض و عودة الكرامة و الثأر لإخواننا الذين سبقونا بالشهادة....الله....الوطن....و تحيا مصر" و انطلقت صيحات السعادة و التكبير في كافة أقسام الغواصة....بعدها طلب القائد من "علي" أن يغير اتجاه الغواصة إلى إحداثيات القطاع المطلوبة و بسرعة 8 عقدة في الساعة و التي من المقرر أن يصلوها بعد أقل من 24 ساعة في جناح الليل....يراجع "علي" الخرائط الملاحية بدقة و يقارنها كل ربع ساعة بموقع الغواصة الفعلي و يتأكد من كونها على المسار المحدد و المطلوب و يتأكد من ابتعادها عن خطوط الملاحة المعروفة و عن أماكن تواجد قطع الأسطول السادس الأمريكي في المنطقة....و التي عرفها عن طريق تقرير المخابرات العسكرية قبل الإبحار بساعات....و يتذكر الحديث الذي دار بينة و بين قائد الغواصة في الاجتماع التحضيري للمهمة التي كانت وقتها تدريبية....وعن صعوبة تلك العملية و عن تعليق القائد أنها تعتبر عملية جريئة و حساسة....فالغواصة المصرية روسية الصنع من طراز يطلق علية "ويسكي" من قبل حلف الناتو....من إنتاج 15 سنوات ماضية و مطورة بالكامل حسب تكنولوجيا ألمانية من وقت الحرب العالمية الثانية.....و نتيجة لتدهور العلاقات السياسية بين القاهرة و موسكو مؤخرا و سحب الخبراء العسكريين الروس من مصر....تم وقف إمدادات قطع الغيار للغواصات منذ سنتين على الأقل....و نتيجة لذلك تضائل الأسطول المصري للغواصات من عشرة غواصات إلى غواصتين عاملتين فقط!....لأننا اضطررنا وقتها أن نستبدل أجزاء من غواصه إلى غواصه أخرى كقطع غيار لإبقائها عاملة....هاتين الغواصتين هما أمل مصر في مواجهة الأسطول الإسرائيلي الحديث التجهيز من جهة و الأسطول السادس الأمريكي الحليف لإسرائيل من جهة أخرى....الذي ينقل المعلومات الاستخباراتية بأمانة عن تحركات السفن المصرية الحربية في المنطقة....و بسبب نقص قطع الغيار فإن أداء الغواصة لا يمكن أن يوصف بأنه مرضي....و لكنه يرى في عيون الرجال عزيمة و شجاعة و إصرار و وحدة الهدف و يأمل و يرجو نصر الله و توفيقه....و من المعروف أن الغواصات تعتمد في قتالها على أسلوب الكمين....أي أن الغواصة تتقاطع مع مسار السفينة المعادية "الهدف" و تنتظر و تكمن حتى تكون في المدى المطلوب و تقوم بقصفها بالطوربيد من مسافة كيلومتر أو اكثر ثم تهرب إلى الأعماق....ولآن سرعة الغواصة المصرية تحت الماء اقل من 10 عقدة و على السطح 16 عقده (حوالي 20-32 كم في الساعة) و معظم السفن التجارية سرعتها اعلى من ذلك ....و سرعة الزوارق الإسرائيلية قد تصل إلى 35 عقدة (حوالي 70 كيلو في الساعة)....فان المعركة ستكون حسابيا خاسرة بالنسبة للغواصة المصرية اذا تم كشفها من زوارق العدو المجهزة بأجهزة السونار الحديثة....بالضبط كطفل يحاول أن يجري و يختبئ من رجلا بالغا كامل النمو....ناهيك أن يكون طفل مريض مثلا و الرجل بطل سباقات العدو....
مما يجعل المهمة شبة مستحيلة....ولخطورة المهمة و لضرورة إغلاق القطاع المطلوب....لن تكون الغواصة في وضعية الاختباء و الكمين كما هو مفترض....بل يجب أن تكشف عن نفسها لكل من في القطاع بما فيها البحرية الإسرائيلية و الأمريكية و تؤكد على تواجدها في المنطقة و في نفس تتفادي الاكتشاف أو الإصابة أو التدمير....أي أنها ستطفو على السطح حتى في الصباح ثم تغطس و تناور و تقترب من السفن البعيدة كي تراها و يبلغوا بعضهم و يمتنعوا تدريجيا عن المرور بالمنطقة....و لن يخطر ببالهم أن تلك الغواصة في حالة متهالكة للقتال أو على الأقل هذه هي الخطة الجريئة و للبعض قد تعتبر انتحارية!....أما اذا تم اكتشافهم و تتبعهم من الزوارق الإسرائيلية....فالمسألة ستكون مسألة وقت فقط لتحديد مكانهم وتدميرهم.......و كانت إسرائيل قد تخلت عن أسطولها من المدمرات بعد تدمير إيلات سنة 1967 و استبدلتها بزوارق أمريكية سريعة تستخدم في مكافحة الغواصاتتسمى "دبور" مجهزة بقذائف أعماق......
الغواصة 21– 3
ساعات قد مرت و قد بدت كأنها دهورا متعاقبة لا تنتهي....تتابع فيها الأوقات و تتشابه....كأمواج البحر المتعاقبة.... وتختلط فيها الأشكال و الوجوه....و الأماني و الأحلام و الخوف و الرجاء....و يشعر كلا منهم بأن هذا اليوم كأنه حياة كاملة سيعيشها....كأنه اليوم الذي ولد من أجله....و يشهد مرور أحداثه المتلاحقة....و يأمل بأفضل نهاية ممكنه عند غروب شمسه....ومثلهم شعر "علي" بانه يتعجل الوصول إلى مكانبعيد و غريب و معادي ولكنه يعرفه تماما و يكاد يلمسه بيديه ....و يعود بالذاكرة لسنوات أربعة ماضية لما كان يطلق علية حرب الاستنزاف....و قتها كان في مهمة على غواصة أخرى....و هي مهمة استطلاع لنفس الميناء "أشدود"....وهذا الميناء الحربي التجاري الذي هو الأقرب لسيناء بمسافة تقل عن 100 كيلو عن الحدود مع مصر....و الذي يصلح تماما للإمدادات العسكرية الثقيلة بالسفن من حلفاء إسرائيل في حالة الحرب....و لم يعلم وقتها ما هو الغرض الاستراتيجي لمهمة الاستطلاع....هل كانت لقياس مدى جاهزية العدو و أجهزة الرصد لدية؟....أم أنها لدراسة دفاعاته و مبانيه؟....أم أنها تجميع لمعلومات استخباراتية تمهيدا لانزال بري و احتلال الميناء؟....لم يعرف احد لليوم....و لكن ما حدث وقتها....أن الغواصة المصرية اقتربت من الساحل المعادي لمسافة لم تحدث من قبل لدرجة انهم كانوا يروا الجنود يتحركون على ارصفه الميناء و يدرسوا نشاطهم اليومي....و قاموا بالتقاط الصور لكل الميناء و منشأته و دفاعاته بدقة متناهية....و استمروا في مهمتهم لأسبوعين كاملين دون أن يكتشف وجودهم العدو....و يا له من إحساس جميل من الصعب وصفة عندما تشعر انك الأعلى و الأقوى في معركة الحياة و الموت و الكرامة المهدورة....ولاحقا عندما عادوا إلى الإسكندرية....تم استقبالهم استقبال الأبطال وتم تقليد كل فرد في الغواصة وسام الشجاعة من قائد القوات....و مع السعادة و الاحتفال بنجاح المهمة.... بقيت مرارة في داخله بالتأكيد لأنه كان تواقا إلى القتال الذي يعرفه و تدرب علية....و الذي كان وقتها كحلم من ضروب الخيال....القتال الحقيقي الذي يروى بالدموع و يسطر بالدم في كتب التاريخ....وللأسف اصبح قتال قد طال انتظاره حتى الملل.... و اصبح الكلام عن القتال مدعاة للسخرية بين جموع الشعب و مصدر لاستهزاء الأعداء مننا....و كم ظهر رئيس من رؤسائهم يتحدى مصر و شعبها أن يحاربوهم....و لكن كان هناك أضواء ضعيفة تكاد أن تومض في نهاية النفق المظلم الطويل و المرير....مثل إغراق المدمرة إيلات سنة 1967 و مدمرة أخرى كانت مرافقة لها أسمها يافو ....و التي قامت بغطرسة باختراق المياه الإقليمية المصرية شمال بورسعيد.... وعلى متنها بالإضافة إلى طاقمها المكون من 100 فرد.... كان معهم أيضا طلبة السنه النهائية للكلية البحرية الإسرائيلية في مهمة تدريبية!....في زمن الحرب و داخل مياهنا الإقليمية ؟ و يا له من استهزاء و استهانة و غباء....و ترقد الأن إيلات في أعماق البحر على بعد 12 ميل بحري شمال شاطئ بورسعيد....و كذلك تلك الأخبار التي تروي عن أحداث قد باتت كالأساطير....عن ما يقوم به بطريقة منتظمة مجموعة من جنود الصاعقة المصريين على خط القنال....كانوا يعبرون القناه في جناح الظلام على متن قوارب مطاطية....و يشتبكون مع العدو الموجود في مواقعة المحصنة على الضفة الشرقية بأسلحة خفيفة ....و يعودون بالأسرى موثقين إلى الضفة الغربية و بالمصابين و في بعض أحيانا عائمين بعد إصابة قاربهم.... و بعد أن تكون الرسالة قد أصبحت واضحة و جلية و مؤلمة للعدو....بأنه لا أمن ولا أمان لكم على ارض مصرية أبدا....و مصر ستكون كما كانت دائما....مقبرة للغزاة..........
الغواصة 21– 4
طلب القائد من "علي" أن يتفقد أقسام الغواصة بنفسة للتأكد من جاهزيتها للقتال....و تحرك من قسم إلى قسم في الغواصة الذي طالما شعر كأنها بيتة الثاني إن لم يكن الأول .... يتابع بطريقة روتينية بعض الأجهزة و العدادات....و يتأكد من قراءتها و أوضاعها و يختبرها ما أمكن....و يلتقي و يتحدث إلى رجال (http://www.alhaqlah.com/showthread.php?t=84905) الطاقم الذين يعلمهم بالاسم فردا فردا....و يعلم من أي مدينة أو قرية قد أتوا....75 ضابط و جندي.... ينظر إلى وجوههم ....منهم من يبتسم.... و منهم من يتمتم بكلمات لا تكاد تتعدى شفتيه....و أخرين يبدوا متماسكين وهم ينظرون إلى المجهول أو مشفقين منه....و كلهم مشغولون بما يفعلون....في قسم المحركات يتكلم مع "محمد" قليلا و يربت على كتفة ويشجعه....و يصل إلى قسم الطوربيد في المقدمة.... يداعب "إبراهيم" بنكت قديمة سمعوها قبلا 100 مرة....و ينصرف قائلا له "إحنا معتمدين عليك يا وحش"....و في قسم السونار يقترب من "مينا" و يسأله عن اسم ابنته التي رزق بها قبل الإبحار بساعات ؟....و يرد عليه قائلا " أسميتها مريم" و يبتسم و يبارك له....ويكمل طريقة ليعطي بعض التعليمات هنا و هناك ليتأكد من معنويات البحارة و جاهزيتهم للقتال....فهو يعلم أنهم يقتربون بسرعة من منطقة العمليات....و يجب أن يكونوا في أعلى درجات الجاهزية و الاستعداد....و أثناء تفقده لقسم الملاحة يلاحظ أن "كرم" يبدو متوترا فيقترب منة و يقول" مالك يا كرم" "أبدا يا فندم بس...." " بس إيه ....قلقان.؟ " " قال بصوت مرتعش هامس " أيوة يا فندم خايف ما اشوفش أولادي تاني" فرد "علي" " اللي كاتبة ربنا حا نشوفه و لكن قبل ما نشوفه و إحنا راضيين لازم ننفذ مهمتنا....و نرضي ضميرنا قبل ما نقابل ربنا"....فنظر إليه "كرم" و قد تغيرت نظراته إلى شيء من العرفان و التحدي " ونعم بالله يا فندم" ....و فجأة لاحظ "علي" فوق باب مدخل القسم الذي يليه ....لاحظ ضوء إنذار حمراء بدأ يومض بطريقة متقطعة و صامتة....و تسارعت دقات قلبة باطراد.... فهو يعلم بأن الضوء يعني بأن هناك إنذار لوجود هدف معادي قريب أو خطر محدق....و تعني بوجوب عودته حالا إلى قسم القيادة على الفور....ربت "على" كتف "كرم" مشجعا و أسرع إلى قسم القيادة....لا أعلم ماذا كان يدور في ذهن "علي" وقتها هل كان متوترا؟ هل كان خائفا؟....هل تذكر زوجته و أولاده؟ هل كان متحمسا جدا أم كان هادئ؟....هل فكر في حبة لبلدة و شرف الدفاع عنها؟....ربما لن نعرف ابدأ و لكن ما أتوقعه أنه كان هادئ جدا و دقيق جدا و لا يخلط بين عمله و عواطفه الشخصية....و كان دائما يحاول أن يكون في الصف الأول للدفاع عن بلده مصر....طيار مقاتل....ثم ضابط غواصات....و هكذا كان دائما يبحث عن الأصعب و الأخطر في المقدمة....و يبدو أن إنجازات حياته قد وصلت إلى أوجها اليوم....و هو على بعد أميال معدودة من الحدود البحرية للعدو ..........
الغواصة 21-5
الخامس من أكتوبر سنة 1973
و لأن الوقت كان ليلا عندما وصلت الغواصة 21 للقطاع "س14" المطلوب و ذلك إمعانا في التخفي....و هو تقريبا وقت الإنذار....كانت الغواصة تبحر على السطح في اتجاه الشرق و بسرعة 14 عقدة و هو الاتجاه المباشر المؤدي لمنطقة العمليات....و فور وصوله إلى قسم القيادة أعلن "وصل القائد الثاني للغواصة إلى قسم القيادة".... ذهب مباشرة إلى مكان جهاز الرادار حيث كان القائد متواجدا و بعد تحية القائد...سأل المشغل...."بلغ المعلومات لو سمحت ؟" فرد علية المشغل " هدف على بعد 20 ميل بحري في اتجاه 75 درجة يبحر بسرعة 20 عقدة في اتجاه الشمال الغربي....غالبا سفينة شحن تجارية....يبدو من اتجاه الحركة أنها كانت خارجة من ميناء أشدود"....يقوم القائد و "على" بفتح خريطة المنطقة و تحديد موقع الغواصة و موقع الهدف المحتمل و إجراء بعض الحسابات....و يقول القائد بنفاذ صبر "بعاد أوي و على بال ما نلف وراهم حا يبعدوا اكثر و حا يكون مستحيل الاشتباك معهم"....فيقول "علي" بحماس " اقترح أننا نقترب منهم ما امكن و نقوم بإضاءة بعض الأنوار الخارجية للغواصة حتى يلاحظونا و يبلغوا عن وجودنا؟"....فينظر إليه القائد و يسأل "و لو كانت قطعة حربية " فيرد "علي" "لو ظهر أنها قطعة حربية سنغطس و نبدأ في تطبيق مناورات التملص و التخفي"....فقال القائد " توكل على الله....إبدا بتحديد مسار للاعتراض"....و يأمر بإعلان لكل الأقسام باتخاذ مواقع القتال و يرن جرس الإنذار....و بعد ثواني يطلب "علي" من مشغل الدفة أن يدور بالغواصة في اتجاه 315 درجة شمال غرب و أن يستخدم السرعة القصوى و التي يتذكر بمرارة إنها لن تزيد عن 16 عقدة و إلا سيتعطل المحرك و قد يتوقف عن العمل تماما ....كانت الخطة أن تقرب الغواصة من الهدف إلى حوالي مسافة 6-8 أميال بحرية على الأقل ليتم اكتشافها من السفينة المعادية....و التي ستقوم عندها بإبلاغ قيادة ميناء العدو بتواجد غواصة في المنطقة و هذا هو المطلوب تماما....ويفكر علي بمرارة في هذه اللحظة أنه لو فقط كانت الغواصة متطورة أكثر لتمكنوا من اللحاق بالسفينة و الاشتباك معها....و في نفس اللحظة وصله اتصال من مهندس الغواصة يبلغه - كما كان يخشي- بأن المحركات ارتفعت حرارتها جدا و أن السرعة انخفضت إلى 14 عقدة و مازالت تنخفض!!!....و تكلم مع القائد و رغم قربهم من الساحل إلا انهم قرروا أن يضيئوا أنوار الغواصة كلها لكي ترصدهم السفينة....رغم الاحتمال أن يتم رصدهم أيضا من الشاطئ القريب المعادي و أن يتم قصفهم بالمدافع الساحلية أو الصواريخ....و تم إضاءة الأنوار مع تتبع السفينة المعادية....و وضح من الدقائق الأولى أن السفينة قد رصدتهم و غيرت اتجاهها و زادت سرعتها للابتعاد عنهم....و بعد 15 دقيقة صدر الأمر من القائد " أغطس حالا إلى عمق البيرسكوب و اتجاه 95 درجة" لان هذا الاتجاه هو اتجاه الميناء تقريبا و هو اتجاه من غير المتوقع أن يسلكوه....و اقتربوا اكثر من الشاطئ و من مدخل الميناء....و وجه "علي" البيرسكوب إلى اتجاه مدخل الميناء و لمح بطريقة شبه مستحيلة في الظلام ما يظهر انه أولا جسم داكن خارجا من الميناء ثم أصبحوا جسمين سريعين يبحران في اتجاه سفينة الشحن و مبتعدين نسبيا عن الغواصة....و في نفس اللحظة قام "علي" بعد استشارة القائد بعمل نداء داخلي يطلب من كل الضباط و البحارة أن يلتزمون الهدوء التام مع إيقاف المحركات تماما و توفير استخدام الطاقة المعتمدة على البطاريات....و بعد محاولات صعبة لرصد القاربين السريعين للتأكد من اتجاههم فوجئ "على" أن هناك قارب ثالث يقوم بتمشيط المنطقة و يقترب منهم بسرعة....و بعد إبلاغ القائد تم إصدار الأوامر بالغطس لعمق 75 متر بأقصى سرعة ممكنه....و رغم أن الغواصة من الممكن أن تغطس لعمق 200 متر حسب تصميمها....إلا أن نصيحة المهندسين الموجودة في كتيب التشغيل....كانت بألا يتعدى العمق ال 125 متر للحالة المتهالكة للغواصة....و أصدر القائد أوامره إلى مشغل السونار بتعقب القارب المعادي المقترب و إبلاغه أول بأول بتحركاته..........
الغواصة 21-6
مرت ساعات بطيئة و كل من بالغواصة يلتزم الصمت إلا من تقارير تصل لقسم القيادة بأصوات خافتة....من قسم السونار عن تحركات السفن على سطح البحر أومن الأقسام المختلفة للإبلاغ عن أعطال تتزايد و بدأت أن تكون مقلقة أو أوامر بالحركة البطيئة لمشغل دفة الغواصة لتغيير الاتجاه بهدوء شديد للابتعاد عن قوارب العدو على السطح....و وضح مع الوقت أن القوارب قد ابتعدت عنهم و انهم قد توقفوا عن البحث عنهم للأن....بعدها أصدر القائد الأوامر بصعود الغواصة إلى عمق تشغيل البيرسكوب أولا للتأكد مع عدم وجود قطع معادية في المنطقة المحيطة....ثم بعدها أمر بالطفو لعمق فتحات التهوية لتشغيل محركات الديزل لشحن البطاريات مرة أخرى حيث انه تبقى على بزوغ ضوء الفجر حوالي الساعة أو أقل....و كما هو معروف في النهار تغطس الغواصة و تستخدم البطاريات لتحريك محركاتها الكهربائية و في الليل تطفو الغواصة على السطح و تشغل محركات الديزل للحركة و لشحن البطاريات مرة أخرى....و بعد إنهاء الشحن تم الغطس الكامل مرة أخرى إلى عمق البيرسكوب للبحث عن أهداف معادية و التحرك بالمنطقة حسب الخطة....و استغلال الوقت لساعتين راحة.... لاحقا طلب قائد الغواصة الاجتماع مع الضباط في "الميس" لدراسة كل الأحداث التي مروا بها للأن و تبعاتها و استراتيجية الأيام المقبلة في ضوء خطة العمليات الموضوعة....و بدأ القائد الحديث قائلا بصوت منخفض "الحمد لله وصلنا للقطاع المطلوب حسب الخطة و الزمن المحددين و تم محاولة اعتراض هدف على السطح كان مبحرا من الميناء المعادي....و تم الإعلان عن وجودنا و عرف العدو بنشاطنا في المنطقة....الغواصة في حالة مستقرة و معنوياتنا في اعلى مستوى....بالتأكيد في الساعات و الأيام المقبلة سيحاول العدو بمختلف الطرق أن يحدد موقعنا و يشتبك معنا....يجب أن تستمر الغواصة في مناورات مستمرة مع تغيير الاتجاه و العمق بصورة منتظمة....و هذا سيضع الرجال تحت ضغط كبير....قسم الهندسة يجب أن يقوم بتحديد الأعطال أول بأول و تصليحها بأسرع ما يمكن و إعادة تجهيز الغواصة بصورة مستمرة....و الخطة المتفق عليها هي أن نطفو بالغواصة قبل الغروب لفترة محدودة قرب مدخل الميناء و نعاود بعدها التحركات المتفق عليها....أي سؤال؟...." طلب مهندس الماكينات الإذن بالكلام " يا فندم....البطاريات لا تشحن اكتر من 75% من طاقتها مقلله ساعات التشغيل إلى حوالي 6 ساعات فقط ومضخة الهواء رقم 3 معطلة من قبل خروجنا من الإسكندرية مما يعني أن سرعة الغوص و الطفو ستزيد بمقدار 25% على الأقل عن المعدل المطلوب و محرك الديزل يسرب زيت بصورة كثيفة و يتزايد و لا يعطي سرعة اكثر من 12-14 عقدة و يوجد مياه متراكمه في السطح السفلي للغواصة عمقها حوالي 30 سم و تتزايد.....أنا أخشى أن تتوقف الغواصة كليا عن الحركة في خلال 24 ساعة اذا استمرت الأعطال في بهذه الصورة....و أخشى أن معدلات الغوص أو الطفو ستكون اقل بكثير من المطلوب و بالذات في حالات الطوارئ و الاشتباك"....رد القائد "اعمل إلي تقدر علية و ربنا معانا"....طلب "علي" الإذن في الكلام و سمح له القائد " يا فندم فيه 3 مطارات حربية حول الميناء....يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه يوجد احتمال كبير أن تقوم طائرات هليكوبتر بالبحث عنا و تهاجمنا في الصباح اذا اقتربنا من السطح....أقترح أن تكون المناورات في النهار على شكل غوص إلى عمق 50 متر لمدة نصف ساعة ثم الطفو لعمق البيرسكوب لمدة 5 دقائق ثم الغوص مرة أخرى و تغيير الاتجاه و هكذا و بعد دراسة نمط البحث الذي يتبعه العدو من الممكن أن نغير التكتيك حسب الحاجة"....ابتسم القائد و قال له "ممتاز يا علي آنت فعلا بقى يعتمد عليك" و رد علي " شكرا يا فندم" و تذكر "علي" وقتها أن هذا القائد الذي يبلغ ضعفة في العمر هو من علمه تقريبا كل ما يعرفه عن حرب الغواصات منذ أن كان طالبا بالكلية البحرية....و دائما ما اعتبره مثلة الأعلى و أخية الأكبر و استحق حب و احترام كل من عرفه أو عمل معه في سلاح البحرية....و هو من رشحه كقائد ثاني على الغواصة....و اليوم كلمات الإطراء من القائد... يشعر معها بمزيد من التفاني و التضحية و البذل....و هذا ليس بمستغرب على أبناء مصر....انتهى الاجتماع بسرعة....و انطلق كلا منهم إلى ما يبدو انه عاطفة اكثر منها التزام....و احترام اكثر منة تنفيذ أوامر....و عشق لوطن قد غلب ما عداه و بلغ منتهاه.........