المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شيراز


فارس
08-20-2016, 02:19 PM
أعتدنا أن نجتمع فى بيت جدنا "منصور السويفى" من كل عام الذى يقع فى أحدى القرى النائية والغارقة فى غبار مصانع الطوب الطِفلى فى أقصى جنوب الجيزة... حيث يملك جدنا أحد أهم مصانع الطوب هناك ويقطن بيتاً, أشبه بالقصر ,يجمعنا عيد الأضحى هناك كل عام حيث نلتف حول الجد الحبيب وبرغم تقدم الجد وبلوغه السبعين من عمره هذا العام إلا انه مازال كتلة متدفقة من النشاط العارم لا يفوقه فى هذا سوى خادمه شيراز,.........شيراز بقامتة المتوسطة وبناينه المتين كشجرة بلوط راسخة ووجهه المحمر وعيونه الزرقاء البارزة واصابعه القصيرة المكتنزة المنهمكة دائماً فى عملاً ما ,...... يعمل فى دئب وسرعة كالربوت , لا تكاد تشعر بخطواته وهو يرتب هذا هذا وينقل ذاك ويعد الطعام لتلك ...... ثم يشرف على المائدة ويقف كالتمثال الصامت حتى ننتهى ليشرع بعدها فى عملية غسيل الآطباق ثم يعود فى دقائق عدة ليوزع علينا اكواب الشاى المعطر بالنعناع تارة و بالياسمين تارة أخرى وماهى إلا فينة حتى يتخذ موضوعه السابق فى الركن المهمل واقفاً كالطود الراسخ , تشرئب أًذناه فقط لاقل همسة من الجد لكلمة "شيراز"


وقد صادف العيد هذا العام بداية السنة االجديدة وقد حضر جميع افراد العائلة من الخالات العزيزات وابنائنهن وازواجهن فجدى لم ينجب سوى ثلاث بنات وقد رحلت الجدة العزيزة منذ أكثر عشر سنوات, وقد وقف شيراز منذ الصباح الباكر يشرف على عمليات ذبح الخراف ثم توزيعها للفقراء وفى الوقت ذاته يعد لنا طعام الافطار الشهى المكون من الثريد واللحم المسلوق , وقد علقت خالتى الرقيقة سمية بقولها:-


أن شيراز يقوم بعمل كتيبة ........بينما شيراز نفسه يقف متابعداً صامداً صامتاً وقد تتعاقب عليه السنون فلا تزيده إلا صمتاً فوق صمت.

وبنهاية اليوم يرحل الجميع ما عدا أنا وابن خالتى خالد الطبيب الحديث التخرج وقد حل المساء البارد سريعاً على القرية الغافيه تحت سماء رمادية منذرة بالمطر وثمة لسعة برد قارصة تجتاح الابدان ليلاً.............. إلا إن هذا لم يمنعنا من أن نتتقل برفقة الجد إلى إلاستراحة المطلة على النهر وقد تدلت الاشجارالمرتعشة فى دلال تعانق صفحة الماء بينما يجلس جدنا فى أسترخاء على احد أرائك الخيرزان .......... وبجانبه يقبع شيراز يشعل له النارجلية التى يدخنها جدى فى نشوة تعبق الجو برائحة التفاح وتشغلنا عن شيراز المنتبه دوماً لجذوة النار يطعمها أذا خبت ........ ثم ينتقل سريعا الى شعلة التنور الصغير الذى صنعه بمهارة ليصنع عليه الشاى الأسود الثقيل المُطعم برائحة الدخان .

فى هذه الليلة البعيدة الباردة كان لدى فضول دائم بشأن شيراز وغرابة أسمه فوجهت كلامة إليه :-

من أطلق عليك هذا الأسم الغريب ........فنظر إلى بوجه جامد لا تعبير يعتريه وعاد مرة أخرى لتنوره الصغير يجلب له الرياح جلباً كى يتوهج وينتشى حتى نسمع صوت غليان الشاى فى تؤدة محببة.

ولم يقطع سؤالى سوى صوت جدى الضاحك وهو يقول من بين أنفاس النارجيلة المتلاحقة وعيونه المغمضة نصف إغماضة :-

إن له قصة غريبة شائكة فقد وجدته فى نحو الخامسة من عمره يغالب الموت على عتبة الدار و كنت يومها شابا فى الخامسة و العشرين ....... ثم يكمل وسط أنصاتنا ً له :-

يقال أن احد مهندسى الإنشاء الفرنسين إبان بناء مصانع الطوب منذ خمسين عاما اغوى احدى الفلاحات, فانجبته ثم تركته كالكلب الضال يجوب الشوارع لا يلفظ سوى أسم شيراز .


نضحك فى حبور ونداعب شيراز فى شقاوة فلا بنبس ببنت شفة وكأن الآمر لا يعنيه وهو يحرك الأناء ألأسود فى حرص

غمم خالد بجدية وقال نظرية صحيحة

ما هى؟ يسأله الجد فيجيب خالد:-

- إن ملامحه وتكوينه العظمى تدل على اصله .... فيلتفت جدى نحو شيراز فى أهتمام وقد ترك مبسم النارجيله من فمه وكأنه يراه لأول مرة :-

- هذه مجرد دعابة يا خالد راجت حوله , فيقاطعه خالد وقد بهره أكتشافه:-

-انظر اليه يا جدى بعيونه الزرقاء ولحيته الشقراء انه يحمل ملامح جنوب فرنسا , فتشخص ازواج ثلاثة من العيون نحو شيراز وجدى يضحك فى سخرية فيقول:-

لابد ان امك كانت فتاة لعوب

فنقهقه جميعاً فى وجه شيراز وتفوتنا تلك الإرتعاشة الصادمة عند زاوية فمه وألتماعة الدموع فى عينييه وأنسكاب الشاى على جذوة النار تطفئها فى أسى لتقذف بها إلى غياهب العدم وتخلف الدخان الرمادى الكئيب.


فى الصباح يصحو الجد وقد سبقناه ونلتف حول المائدة انتظارً لطعام الافطار لكن شيراز لا يظهر وقد صدح جدى مرتين بصوته المجلجل يا شيراز............. فاجابه الصمت المنذر بالكارثة

هرعت لغرفته يتبعنى جدى وخالد فى خطوات وهلة وأدرت الباب فى إرتجاف، وقد بلغى توترى مداه وأنا أخطو للجسد المسجى على الأرض وثمة حبل ملتف حول رقبته وقد انقطع دون بلوغ غايته ...وجدت جسده يرتجف وثمة دموع تنهمر من عينيه الزقاروين وتغرق لحيته الشقراء بينما أرتعشت شفتاه فى بطء

هرع سمير خالد يفحصه وقد ألم بالجسد شلل تام بينما نادى جدنا عليه فى حنو فادار شيراز وجهه نحو الحائط وانسابت عيناه فى نشيج

مكث فى رعاية جدى شهر , كان يطعمه بيده ويمسح له فمه بمنيدله ويشرف مع الممرض على إستحمامه..ولكن شيراز لم يرنو بعينيه ابدا لجدى ولم يسامحه , فقد كان يحملق دائما فى الفضاء ....ولم يكد يكتمل الشهر........ وكنا نجلس على شرفة القصر وشيراز فى كرسيه المتحرك وفجأة تحركت عينيه ونظر لجدى نظرة عتاب أخيرة ، فأنسابت عبراتنا انا وجدى وقد شخصت العينان الدؤبتان الى ما لا نهاية بينما راحت أصابع جدى تغمض العينين فى ذهول ليأخذه فى لوعة بين أحضانه وينتحب .

خارج القرية وفى مقابر العائلة دفنه جدى وقد كتب على قبره شيراز منصور السويفى وحينما عدنا للقصر البارد القابع تحت وطأة الضمير تصفر فيه رياح اوائل فبراير العاتيه... ايقنت أن روحه مازلت بالمنزل تهيم من مكان لمكان كدأبه الاثير .