المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شوكُ الشوق


فارس
11-09-2016, 08:53 AM
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=2149630&d=1472546819




أمسكت قلمي المهلهل بمشاعر قلبي المتضاربة ، فمشاعرُ تجره للأمام و أخرى تمنعه من المسير و بعضها تَجرهُ للخَلف ، و أحرفي تتلاطم في بحر الكلِم ، أكاد لا أعرف العربية و أنا أكتب ، فرحت أخط بلغة لا أعرفها ربما يعرفها و ربما يحار في معناها رميت قلمي على عجل من يدي ، أمسكت برأسي لعلي أستجمع بعضًا من قواعد العربية و جُملها ، لا أستطيع أن أكتب كلما فكرت بتشجيعك و طمأنتك ، عادت صورة الحرب إلى مخيلتي ، و أتخيلك معهم في الخيام لا تستطيع النوم جيدًا و لا الأكل جيدًا ، حتى صلاتك لا أعلم كيف هو حالها ! تنهدت تنهيدة عن ألف عام ، و رجعت أُمسك قلمي المهلهل ذاته ، و كتبت بخط مائل مرتجف : عُد بسلام فصغيرنا يحتَاجُ إليك ، و رحت أمسح على بطني المستديرة ، فأحسست بحرارة تمسحُ وجنتاي إنها دموعي يا رواد ، لا أستطيع أن أكتب لك كيف أشعر بصِدق ! فقط أواسيك و أثير الحزن بداخلي ، أخاف ألا تعود و أن أظل أنا و طفلي هائمين على وجوهنا ! حركت يدي نحو وجهي أمسح أدمعي ، ثم جررت رجْلاي المثقلة ببطئ لقد أصبت بوذمة الحمل ، المشي يصبح أصعب فقدماي أشبه بالأوتاد الآن ، أجرها جرًا إلى المغسلة لأتوضأ ، فأغسل وجهي من الدموع و أمسح على رأسي لتذهب كل أفكاري المخيفة ، ثم أمشي الهوينة إلى مصلاي ، فأفرش سجادتي و أنا أبتهل و أدعوا " يا رب أعده سالمًا ، يا رب " ما عدت أسهو في الصلاة كما كنت ، و أتحرق شوقًا للسجود فأطيله و أدعوا من كل قلبي أن تعود سالمًا ، حتى إذا أنهيت الصلاة توجهت إلى سريري و قد غشيتني السكينة ، فأنام دون أن أحلم بشيء .

كل يوم أصبح بالنسبة لي و كأنه ميعاد الخوف و الانتظار ما ألبث أتدارك الواقع حتى أذكرك فتهل على قلبي سحائب سوداء لا مطر فيها و لا خير ، فأهيم نحو رسائلي ، أعدتُ قراءة رسالتي لم يكُن فيها ما يوحي بالحزن و الخوف سوى الخط الذي مهما أعدت كتابة الرسائل أرتجف فيتعرج ، طويت ورقتي التي كانت على حافتها أثار دمعة صغيرة ، فتحت مظروف الرسائل العادي جدًا المحاط بالأزرق و الأحمر ، لونان أشبه بالاضطراب الذي يعتريني ، وضعت الورقة و أغلقت المظروف ، فإذا بطرقات متلاحقة على الباب أشبه بجلسات الطرب ، أضافت على وجهي ابتسامة صفراء ، فرحت أجر الخطى نحو الباب ، و أنا أصرخ : حسنًا ، حسنًا ! فتحته ، فإذا بالوجه الصبوح يتكلم بطريقة ساخرة : كيف حالك يا حبيبة حسام ؟ ما لي أرى وجناتك محمرة ، ماذا تكتبين لرواد يا فتاة ؟ فنظرت للأسفل و مع زفرة صغيرة أجبت : لقد كتبت له هذه الرسالة ، أتمنى أن تأخذها معك ، قدمت إليه المظروف ، فقال بمداعبة : نحن لا نوصل كلام الغزل للجنود ، حتى لو أنت أختي ، فالنظام صارم ، فابتسمت بشفتين مرتجفة أجبت : ليتني أستطيع ! فأمسك كتفي و شد يده و قال بلهجة قوية : سيرجع ، سيرجع ! ثقي بالله و سيرده لك سالمًا معافًا ، هززت رأسي بطريقة متشنجة ، فرفع يديه و لوحها في الهواء و هو يبتعد : وداعًا هيفاء ، وداعًا أيها الوسيم في بطنها أيًا كان جنسك ! أغلقت الباب و سقطت أبكي ، لم أعد أستطيع التحمل ، رفعت يداي المرتجفتان : يا رب ، يا رب ، أعده سالمًا .

http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=2149630&d=1472546819




دقات الساعة الموجودة على الخزانة جانبي تصيبني بالجنون " تك-تك-تك-تك" صوت متواصل ، أشبه بقطرات الماء التي توضع للمساجين لتعذيبهم و إذهاب عقولهم ، قمت من على السرير ، أتجول في المكان هدوء قاتل سوى تلك الضربات التي ازدادت داخل بطني مع اقتراب موعد ولادتي ، مؤلم هذا الشعور و لكنه أشبه بدقات القلب مع كل رفسة و لكمة ، رويدًا ! رويدًا يا صغيري ! فنحن بانتظار والدك ، جلست على الأريكة و أمسكت بالمذياع ، إنه موعد احتضاري كل يوم الساعة الخامسة عصرًا ، كم صرت أكره العصر الجميل الذي لطالما أحببتُه فقد صَار يُقلقني كثيرًا فما إن ينتهي حتى أرتاح ، صوت يتسلل مع رفع الصوت " انتقل إلى رحمة الله كل من ...... " كانت تتابع الأسماء ، و عقلي ينبض بدلاً من قلبي فالقلق ينهشه نهشًا ، قمت أترحم على كل اسم مضى و أسأل الله أن يرزق عائلاتهم الصبر و السلوان ، صعب الفقد لا يتحمله أحد ، لكنه شيء لا مفَر منه ، كما لو كان شوكًا ناميًا في كل الطرق التي نسلكها ، وضعت يدي على قلبي أسترسل في دعواتي و أتمتم بها ، حتى إذا انتهى ، قُمت إلى المطبخ أبحث عن طعام للعشاء ، صوت البرّاد عالي كما لو كان يُبرد المنزل و ليس فقط ما بداخله ، فتحته الكثير من الطعام موجود ، لكن لا شهية لي ما عدت أشتهي الطعام وحدي ، و كأن صوت مضغي للطعام يتردد صداه في المنزل ، الأمر موحش جدًا و مخيف ، أغلقت البراد ، و رحت إلى غرفة النوم ، و كأن الغرفة اتسعت عن ذي قبل لربما زادت مترات إلى اللا نهاية ، استلقيت على جانبي أنتظر صلاة العشاء ، حتى أتوضأ فاغتسل من هالة القلق التي تتلبسني ، صوت حذائك الشرقي الذي تنتعله غالبًا تردد في عقلي ، الحِس الذي لطالما امتلأ دفئًا و الوجه الذي حتى إن صبغه التعب تلوح عليه ابتسامة نقية كقطرات ندى تتفتح بحضرتها كل أزهار وجداني ، و لا زلت أذكر تلك المرة عندما أتيت بقناع يشبه وجهك المعتاد و أريتني قرار تجنيدك ، الأمر مؤلم حتى عندما أتذكر ابتسامتك و نظرتك للبعيد و كلماتك : الله حامينا سأظل أقاتل إلى أن أعود لك ، حتى و إن مت سأنتظرك في الجنة ، و ما الأجمل من الجنة مكانًا نلتقي فيه تاليًا ؟ لم أتدارك ليلتها نفسي فما استطعت النوم و لا التوقف عن البكاء ، حتى إذا حضر الصباح غسلت وجهي ، و ودعتك بابتسامة كان أمرًا صعبًا ، أعلم أنني لا أستطيع منعك ، فلا أريد أن تتذكر آخر عهدك بي بكائي ، صوت أذان العشاء يتسلل نحو أذني و يرتفع " الله أكبر- الله أكبر" أجل الله أكبر من كل شيء حتى أحزاننا و همومنا الله قدير عليها ، قمت أتوضأ و أصلي و أدعوا لك بكل سجدة و أسأل الله الجبار أن يجبرني و أن يمدني بالقوة ، رجعت بعدها إلى ذات السرير الذي غادرته لأنام و كلمة " الله أكبر " تتردد بداخلي فتُشعرني بالأمان ..
http://www.mexat.com/vb/attachment.php?attachmentid=2149630&d=1472546819




الظهر هو الوقت الذي تصهر فيه الشمس جميع المخلوقات التي تمشي تحتها حتى الأرض لا تسلم من حرارتها الاستبدادية ، و رائحتها الحادة تبقى بكل شيء مرت عليه ، و المكيف مستمر بالأنين متململًا من هذه الحرارة ، حتى أنه لا يعمل بقدر صوته المزعج ، حسام لم يمرني اليوم كما كل يوم ليطمئن علي ، ربما هو مشغول بعمله ! أو ربما زوجته احتاجت إلى شيء ما ، تنهدت بقوة و فردت يدي على الطاولة الموجودة بالصالة و وضعت رأسي عليها ، جزء من يدي يلوح بالهواء باتجاه الباب الأزرق الجميل الذي صبغته بيمينك ، رفعت رأسي و نظرت إليه و تذكرت قولك : سأصبغ غرفة صغيرنا بالأزرق ، حتى يتطلع إلى لون السماء الذي يشبه العلا ، و سأرسم غيمات صغيرة كحلوى القطن و الشمس باسمة في البعيد ، فضحكت يومها و قلت : ما عهدتك بارعًا في الرسم ، فقلت و أنت ترفع حاجبيك بفخر : لأجل صغيرنا أصبح بارعًا بكل شيء ، دائمًا أنت هكذا مملوء بالطاقة و بالأمل ، يوجد بداخلك البطل الذي أرادته كل فتاة ليصبح زوجها ، فاسترسلت بسخرية : أسأل الله أن لا نضطر لصبغ الغرفة مرتين ، مرة قبل الرسم و مرة بعده ، فأعدت الفرشاة لعلبة الطلاء ، و وضعت يدك على بطني قائلاً بصوت أبَوي : أترى كم نحن متحمسان لك ؟ فأنت أمير والدك الذي يحبه جدًا ، كم أشتاق أن أحمله بيدي يا هيفاء ! فقلت : حتى أنا أريد ذلك ! عدتُ بنظري إلى ذات الباب ، قمت إليه و فتحته ، لقد ذهبت دون أن تكمل طلاء الغرفة ، فهل سينظر طفلنا إلى هذا الباب فقط ؟ لقد اقتربت ولادتي ، و ابتعدت أنت ! رحت إلى دولابي الصغير ، فتحته و أخرجت بعض الأوراق و القلم الأزرق الذي يكتب حينًا و يجف أحيان ، رجعت إلى ذات الطاولة التي لا تتسع لاستناد مرفقي عليها حين أضع عليها الورق و القلم ، بدأت بـ " لا تزال علب الطلاء مصفوفة في غرفة صغيرنا ! " و كأنني أرى كل شيء ينتظرك بشوق مثلي ، و بعدها بدأ القلم يتقاعس في عمله فأصبح يخُط بلون غير مرئي مع نهاية العبارة ، فوضعته على جانب الورقة ، لا أعرف ماذا سأكتب أيضًا ! و كأن الثمانية و عشرين حرفًا غير كفيلة بوصف ما أشعربه ! ألم مفاجئ يزاداد ببطني ، يقطع حبل تفكيري العميق ، طرق على الباب ، لم أستطيع الإجابة جررت خطاي ألم بطني يزداد ، فتحت و بصوت متقطع : حُسام ؟ فأمسك بي قائًلا : هيفاء ! فرفعت عيني إنه ذات الصوت الذي ينساب دفئًا ، كما لو أن ريحًا طيبة من الجنة حملته إلي ، رواد ! أجل إنه رواد ، الذي تفتقت من انتظاره و الشوق إليه ، لم أتمالك نفسي سوى أنني سقطت أبكي و أنا ألهجُ : حمدًا لله ، حمدًا لله لا أصدق أنك عدت ! و كأن الأمر حُلم أو رؤيا ، فأغلق الباب ثم جلس بجانبي و قربنِي إليه ، قائلًا بصوت عميق ينساب بسكينة : أجل حمدًا لله ، لقد قرأت رسائلك كلها و أعدت قرائتها كثيرًا إلى الحد الذي خُيل إلي أنك تبكين مع كل عدة كلمات ، فقد شعرت بنبضات قلبك المضطربة مع كل سطر و حرف ، و مع ذلك كانت كلماتك مغلفة كحلوى السكر بالتفاؤل و الأمل اللذان يربطان على قلبي ، و مع نهاية كل رسالة كان هناك شوق عارم يعتريني إليكِ ، حتى الكتابة لم تكن تُطفئه ، حمدًا لله يا هيفاء أنك الآن بجانبي ! فما إن هدأت حتى صحت مرة أخرى : سألد يا رواد !


- تمت -