المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إليــكِ


فارس
11-09-2016, 08:56 AM
https://up.harajgulf.com/do.php?img=1215221







إليــكِ...
هذا المساء أيضاً أكتب مستنيرا بشوقي، وبقايا شمعة محتضرة ، أكتب ولا يصلني منك جواب ، وأخاف أن أفكر فيما يتجلى خلف صمتك الطويل هذا ، هل تركت العنوان وهاجرت هربا من الشتاء ومن الذكرى؟ أم امتدت لك يد الغدر فأسكتت نبض قلبك؟. أخاف التفكير وأنتزع شظايا الأسئلة من عقلي السقيم، أقنع نفسي بطول الطريق، وأمنيها بقرب اللقاء ما أن تضع الحرب أوزارها .

نحن هنا ، لا تسأليني أين هنا فقد أضعتُ الاتجاهات وضللتُ الطريق ، الثلجُ يغمرنا حتَّى الخصر ، ونمضي الساعات تلو الساعات في قطع بحرٍ صلبٍ مترامي الأطرافِ ، نتبع المتقدمين، ولا ندري إلى أين يقودنا السبيل، أشعر أني ضائع، أتحرك بلا هدى، ولا هدف، في وقت ما كنت أعرف أنك هناك، خلفي، أتقدم لأعود إليك، ولكن منذ أن ابتلعك الصمت، بقيت وحدي أتخبطُ في الظلمات؛ أشعر أني أقف على نهاية العالم، وليس أمامي سوى بحر أبيض لجيني، على سطحه يتجلى سحرٌ لامعٌ إثر انكسار الشمس على ذرات الماء المتصلبة، وفي جوفهِ تقبع الجثثُ الباردة، هناك في القاع، حيث الظلام، حيث لا تصِل الشمس.

لا أدري لم أعكر صفو نهارك – حيث ستصلك رسالتي في وقتك المعتاد لارتشاف قهوة الصباح - بحديثي عن بقايا أجسادٍ غادرتها الحياة؟! ربما لأن الشتاء في خيمتي هذه قد جمد قلبي فما عدت أفقه الإحساس، ولكن كيف يكون ذلك وأنا أشعر به يندفع؟ .. نعم يندفع كرصَاصة، حينما أسمع صافرة البريد في كل ظهيرة، أمني نفسي برسالة تصلني منك، تعيد تدفق الروح في شراييني، فأرهف السمع مع الصَّوتِ العجوزِ المنادِي على أسماء تعساء البشر .. لا ليسوا تعساء، بل أنا التعيسُ وحدي، لأني أنتظر كل يوم ، في نفس الوقت ونفس الساعة، وأسمع كل الأسماء إلا اسمِي !.
قالوا لي لا تؤجل الحديث، فقد تتغير العناوين، وليس للكلمات وارث ينقلها، فاقنعوني، أو أقنعتني حقيقة أن أفقدك إلى الأبد، فصرت أرسل الرسالة تلو الرسالة ، يجيبها صمت غريبٌ عليك !.

أستطيع تخيل سوق المدينة – حيث التقينا أول مرة – صامتا، وأقدر على كتم صافرة القطار في المحطة حيث افترقت أصابعنا، ولا يصعب علي خنق هديرِ المدافعِ وانفجارِ الرصاص وصراخ الجنود، هناك، في خط النار حيث كنت صباحا وحيث سأعود بعد ساعات، ولكن ينتفض قلبي ويرتجف ، ويقفز إلى حلقي لما أتخيلك واجمة.
الصمت غريب عليك ولا يليق بطيفك، اعتدت استقبال الصبح بهمساتك، والضحى تملؤه حكاياتك، فلا تسكتي الآن فيسكت قلبي من بعدكِ.

خيمتي صارت أكثر اتساعا وبرودة، كنا سبعة نتشارك نُتفة صغيرة متجمدة من الأرض، نواسي بعضنا لما تنقطع أخبار الدِّيار، ونتشارك الحلم بالعودة للوطن حيث الأمان، حيث لا يترصدنا شبح الموت خارج هذا البيت ضعيف الأركانِ، ولكنهم فارقوني الآن، ذهبوا قبلي، وتركوني وحيدا يخنقني الهدوء، وتطبق علي أطياف الموتَى.

أرسل لك مستشعرا اقتراب النهاية ، لا أدري حقا نهاية من وماذا ؟ والأرجح أنها نهايتي أنا ، فالمرء يستشعِرُ انقضاء مسيره ، ويعلم في يوم من الأيام ، أن وقت الرحيل قد اقترب، فيسلم أخيرا ويضع أمتعته على رصيف المغادرين، منتظرا مركبه الذي سيأخذه إلى الضوء في نهاية النفق.
قد لا تكتشفين رحيلي إلا بعد أيام ، فساعي البريد يطل عليك كل صباح، يستعيد أنفاسه أمام باب بيتنا المزين بضروب أنواع الأكاليل، ويوصل إليك حزمة من رسائل الأقارب والبعيدين ، ولن تفتقدي رسالتي يوما أو اثنين أو اسبوعين ، بينما أرقد أنا هنا تحت الثلج ، تزرق أطرافي ببطء ، وتتصلب ، فأصبح حجراً بملامحِ إنسانٍ .

وقد نلتقي ... لا ، لا أريد لهذا اللقاء أن يحدث ، ابقي هناك ، بعيدا عن الضجيج، عن ازدحام المغادرين، وانْأَيْ بنفسك عن الضباب البارد الملتف حول الرؤوس، لا أريد رؤيتك في آخر النفق! وبئساً لقلبي فإنه يريد!.
أبصرك هناك بابتسامتك الدافئة، وعطر الليمون يوقظني بعدما أسكرتني رائحة الدماء الباردة، تمسكين ذراعي ونمشي معا نحو الضوء؛ يا له من تخيل قاسٍ وأنانيٍّ في حقك، ولكن – يالَ شقائِي – أليس لأسيرِ الموتِ – البائس – أمنيةٌ أخيرة؟! .



وصلتكِ مني ..

من بقايا طيفٍ كان إنساناً ،

من .. أندريه دي لا سيرا .