المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قَشٌ ثَلْجِيْ ..~ | أقصوصة


فارس
11-12-2016, 05:05 AM
أَمسَكَت يده الباردة المِقبض المشوي من قِبلِ الشمس الغاضبة ، لكن عقله المشوشَ لم يهتم هذه المرةَ بالحرارة الهائمة .
كانَ يودُ لو أنه فقط يستسلم ، أو يسقطُ من مكانهِ ، لم يمتلك القدرة حتى على التفكير بالهرب!
تَبَعثرَ الشابُ في مشيتهِ ، حتى أسقطَ جَسَدهُ النحيف بأكمله على اريكتهِ البيضاء المريحة ، لم يهتمَ بحقيبةِ عملهِ التي سَقَطت في مكانٍ مجهول ، جُل تفكيرهِ كان بِجمالِ حركةِ عظامهِ الانسيابيةِ المريحة .
أحسَ بعد ثوانٍ بأنه جالسٌ في حرارةٍ تتخطىَ الأربعين ، كان عقلهُ يتمنى هامسًا أن يَعملَ التكييَف لوحده ، عينيهِ ترجتاهُ ألا يفتحهما إلا بعد بضعةِ ساعات ، ورجليهِ اعتزلتا المشيّ ؛ فقد أنهكهما صبيحة اليوم .
شَكَ لوهلةٍ أنَ جاذبيةَ الأريكة تفوق الأرض ، تساءَلَ دِماغهُ : " لِمَ لا تدور الكواكبُ حولها بدلًا من الشمس ؟!"
ألتفَ بجسدهِ لينظرَ للنافذةِ الزجاجية ، غير آبهٍ بظهورٍ جزءٍ من بطنه بسببِ حركته .
حَرَكَ كفه ليَرفعَ خصلات شعره الطويلةِ المتسللة لوجههِ ؛ فهي تزيد الحرارةَ عليه .
حَكَ بشرتهُ البيضاء التي تناثرت فيها البثورُ ، وأخذَ يتمعنُ فيما هو خلفَ النافذة ..
أولَ ما لفتَ مُقلتهُ الخضراء هي الأشجارُ العملاقةُ التي تَتراقصُ أوراقها مع الرياح الحارقة ، تساءَلَ لوهلة بعيدًا عن هذا ، هل جزيئات الغبار الملتفةِ حولها تَتصافح مع بعضها البعض ؟ أو أنها لا تستطيعُ تركَ بعضها من الحبِ فتناقلت مع الرياح ؟
وتلكَ ، السماء الزرقاء ، ألم تملَ منّا ؟
فَكَرَ في نفسهِ ، كيفَ تَتَحملُ تقلباتَ الجو دونَ أن تتأثر في كيانها ؟ لِمَ لم تستاء منّا بعد ؟
أدْخلَ لرئتيهِ جزءًا ليسَ بصغيرٍ من الأكسجين ، كان قد أدركَ بأنه أدخل نفسهُ لعوامةِ تفكيرهِ ما قبلَ نومه!
هكذا هوَ ، يظنُ أن الإبداع في الفكرِ يكونُ في هذه الفترة ، فقط ، وفقط!
خَشِيَ النومَ ، فأعادَ بصرهُ للبحثِ ، لكنَهُ أرتكزَ في السقف الحليبيّ ، تجاهلَ صيَاحات أطفالِ جيرانه ، وترجمها عقلهُ على أنها لحنٌ براق !
شكَ في نفسه ، أيرقصُ جسده يمنةً ويسرة ؟ أم أنها فقط روحه من تمتلكُ الطاقةَ لفعل ذلك ؟
تَرَكَ زِمامَ الأمور ، هذه مرحلةٌ ليست بطيبةٍ ، عليهِ النوم ! وهو يعلم بهذا ، لكنهُ فَضَلَ أن يسألَ روحهُ أسئلةً غبية ، أو ذكية ؟ لمْ يعلمْ أيهما هي الإجابة الصحيحة ..
أهوَ يسقط؟!
هو يفعل ؟! أرتاب ورَفعَ ظهرهُ المستسلم ، نَظَرَ حوله لثانيتين قبلَ أن يُغلقَ عينيهِ ، أهذا سواد ؟!
لِم يشعرُ وكأنه سيسقطُ لألف ميلٍ أكثر ؟!
الغريبُ هو ، أنه لم يحبب أن يغير من وضعية جسده أكثر ، حَارَبَ الهواء ، مقاومتها وكل ذلك الهراء ، وأنبطح !
شعرهُ الشوكولاتيّ ، يتناثر حولهُ كما لو أنه يتراقصُ ، مَدَ يده لسببٍ جهله ، ولم يفهم !
تمتعَ بوقوعهِ لدرجةِ أنهُ أفتتحَ عينيهِ الخضراوتيّن لوقتٍ أطولَ من ثلاثِ ثوانٍ – وهذا إنجاز في وضعهِ هذا بالنسبةِ له- !
أهوَ يستمتع فعلًا ؟ لحظة ، منذ متى تحولت الحرارة الشاوية لأخرى ناعمةٍ لطيفة ؟!
رَدَ عقلهُ : " منذ أن سَقَطتَ ! "
شُوش نظرهُ ، الأمر يروقُ له ، الوضعيةُ مريحةٌ للنوم !
دوى صوتٌ شكَ سامعيهِ أنه انفجار هيروشيما الحديث ، وهو لم يكنْ سوىَ اصطدامه بالأرضيةِ الرمليةِ الصلبة !
رَفَعَ ظهرهُ وأفتتحَ عينيهِ مُطلقًا صرخةً من أعماقه ! كان الألم رهيبًا ! رَفَع بِسببهِ جسده العلوي بأكملهِ وأخذ يتنفسُ بقوة !
شَكَ في قدراتِهِ السمعيةِ حينها أنها تختلقٌ أصواتًا، لكنِ ما إن ألتفَ ليسراه حتى صَدَقَها !
صوتُ المياهِ الجاريةِ في شيءٍ ما يشبهُ العجلات ، صحيحٌ أنه لطالما رآها ، لكنه لم يفقهْ يومًا أهميتها !
قَطَب حاجبيهِ ، لا زال متألمًا من سقوطِهِ المفاجئ ، حرَكَ يده لتساندَ رقبتهُ الضعيفة ..
سَحبَ رجلهُ المحميةَ بحذائهِ الأسود ، هل ما حوله هو قش ؟!
قَرَرَ أن يعيدَ أعضاءه المُدمرة للعمل ، علامَ يبدو أنها حالة طوارئ ، لا بأس ، سيريحهم بعد أن ينتهي ..
وقَفَ مُحاربَا ألآمه التي أشعرتهُ وكأنها كُسور ورُضوض ، لكنه سقط !
لم يسقط لأن رجله لم تستطع حمله ، فها هي تقسم له أن الذنبَ ليس ذنبها !
لحظة ، كيفَ فهمَ ما تقولهُ رجله ؟! أصلًا كيف سمعها ؟ كلا لمْ يفعل ! هي لم تنطق !
لم يكنْ يودُ التفكير ، أعتزلهُ تمامًا !
أرتفعَ بهما مجددًا مُرتجفًا ، كان يشعرُ أن هناكَ خطبًا ما ، كانَ يحسُ أن الأرضَ من حولِه تدور ، وأن السماءَ تَتَقلبُ في دقائقَ ما بين صباحِ ومساء !
وَقَعَ مجددًا ! رَغمَ تَعْبِ جسدهِ إلا انهُ عُرفَ بِعنادهِ ، كان يودُ الانتصابَ مجددًا ، لكنَ شيئًا غريبًا وُضعَ على كتفهِ الأيمن ، دار رأسه ، وشعرَ بِبرودةٍ تمتلكهُ بينما وقع قلبه !
سَبِقَ ترجمةُ عقلهِ لما رآه نُطق الشيء الغريب بـ:" لا تقلق هاري ، كلُ شيء على ما يرام ، أستمتع معي برؤيةِ السماء ، وتقلباتها ! "
كان رجلَ قش !
المتحدثُ هو رجلَ قش !! ودّ لو يتكلم هاري ، لكنهُ نظرَ للسماء أولًا ، فوجدَ الشفقَ القطبيَ يُزينها !
جذبتهُ تلكَ الألوانُ البراقة ، تلمعُ في الأفقِ ولا تتوقف ، أهي ترقص ؟ أم هيَ تظهرُ مفاتنها للناس ليعلموا أنهم مهما بلغوا منَ الجمالِ ، سيظلُ هناكَ من هو فوقَ السماء يغلبهم جمالًا ؟
أتلك أطيافُ وجوهٍ بينَ طياتها ؟!
آه لحظة ، كيفَ يرى شفقًا وهو في منطقةٍ ريفية ؟
أبتلعَ ريقه ، أغمضَ عينهُ ثم أفتتحها ، كانت الثلوجُ حولهُ وتغطي جزءًا منه أيضًا !
ألتفَ وراءه ، ليرى رجلَ القشِ تحولَ لآخرَ ثلجي ، ينظرُ لهاري ويبتسمُ بنقاوة ، يومأ له أن أنظر !
رَغمَ غرابةِ أنه لم يشعر بالبرودةِ وهو يرتدي ملابسًا خفيفة ، إلا أنه أعادَ النظر ، كان يُحاول التركيزَ فيما يُعرض بالشفق ، كانوا أصدقاء؟!
أشخاصٌ لم يتعرف على وجوهِهمْ حتى ، كانوا يسألونَ بعضهم عن أحوالهم !
لم يتحمل أسئلةَ عقلهِ ، رَفَعَ جسده غيرَ آبهِ بتبعثره ، كانت الأرضُ لا تزالُ تدور !
توجهَ للرجلِ الثلجي الجالسِ على خشبة، وأمسك ما هو يفترضُ أن تكونَ أكتافه ، علا صوتهُ قليلًا :
- ما الذي يفترض بهذا أن يعني ؟!
لم تَزَل ابتسامته ، تحدثَ بهدوء : ألا يبدون وكأنهم يجسدونَ الحب؟
هَزهُ حتى سَقَطَ بعض الثلجِ منهُ وأتضحَ القش ، صَرَخَ فيه قائلاً :
- جاوبنيّ على سؤالي !
- على مهلك ! أنظر حولك !

تَمسَكَ بالخشبة ، ليسَ ضعفًا إنما الأرض تدورُ بشكلٍ مجنون !
نظرَ حوله ، كانت بعض الثلوج بُدلت برمال الريف واعشابها ، وكذلك السماء !
فقد أقتُطِفَ جزءُ من الشفقِ وَ بُدلَ بسماءٍ صافية !
- كان يفترض ألا تهزني ، لأنكَ ستوقعُ نفسكَ في دوامةٍ لانهاية لها !
كان عقلُ هاري يحاولُ أن يفهمَ نفسه معنى كلامه ، بشكلٍ ما ، ظنَ أن السماء ستعطيهِ حلًا ، فحدقَ فيها ، النجومَ كانت متكاثرةً بشكلٍ لم يعهدهُ من قبل !
شعرَ برأسهِ يضيق ، نوبةُ ألمٍ غريبة ، شعرَ أن روحهُ تدورُ بشكلٍ لا نهائي !
كأن رأسه يفيضُ بمعلوماتٍ ويسعى لأن ينفجر !
الأرضيةُ تدور بشكلٍ أسرع ، السماءُ تَتَبددُ والثلجُ يذوب ، الحرارةُ تزداد ، بشكلٍ ما ، حسّ أنها تزيدُ لتحطمه!
كان دائخًا مع حركةِ الأرض ، رغبةُ التقيؤ هاجمته لكنه يحاولُ الانتصار عليها !
أمسك رأسه مُسرعًا ، شعور انفجاراتٍ متتالٍ هَجَمَ عليه ، يُحرضهُ أن أصرخ !
أصواتٌ تتداخلُ لعقلهِ وتصرخ بلا توقف ، حتى صرخَ هو !
ما إن صرخ ، حتى تحطمت قُطعُ من السماء ، تسقطُ وكأنها قُطعُ زجاج ، كان مرتبكًا ، متوترًا .
ما الذي يحدث ؟
أحسَ برأسهِ وكأنه يثقل ، الضباب يعومُ حواليه ، وسَقَطَ مكانه !

رَفَعَ رأسهُ من الأريكةِ وهو يستشعرُ حرارته ، يحسُ بعرقهِ يسلكُ طريقًا من وجههِ ، أما ظهرهُ فكان مليئًا منه .
تنفسَ طويلًا وتنهدَ أعمق حامدًا الله ، أغمضَ عينيهِ مُتضايقًا من كابوسهِ ومن الحرارةِ القاتلة ، ألتفتَ ليساره ، شَغَلَ التكييف من جهاز التحكمِ الخاصِ به ، ثم غَرَقَ مجددًا في النوم !