المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقل وعلم الغيب


فارس
11-16-2016, 01:27 PM
العقل وعلم الغيب

يقول الله عز وجل متمدِّحا أهل الإيمان: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة:3).
تأمل معي هذه المعادلة من قبيل ما درجنا على تعلمه في الصغر في كتب الرياضيات المدرسية :1 + س =3، وكانوا يضعون مكان (س)، مربعًا فارغًا.

فيكون تقدير السؤال عندئذ: ما العدد المجهول الذي ينبغي ملء المربع به لتكون المعادلة صحيحة بأن يكون طرفاها متساويين ؟

والآن انظر بعينك في أجزاء هذه المعادلة ..ماذا ترى بحاسّة الإدراك البصرية ؟

إنك ترى الرموز الآتية: 1، +، س أو المربع الفارغ، =، 3 ...أليس كذلك ؟ إذن دعنا نقرر هذه الحقيقة جانبًا ونقول : الذي أدركته حاسة البصر هو هذه الرموز المذكورة آنفًا..ولنتجاوز ذلك إلى ما بعده ..ونتساءل : إذا كانت العين ترى المربع فارغًا لا شيء فيه، فما قيمة ما فيه حتى تصحّ المعادلة ؟ سلْ هذا أيَّ طفل في مبادئ التعلم وسوف يقول :قيمة المجهول =2، فيبقى السؤال الجوهري : كيف عرف الجواب وهو لا يبصره بعيني رأسه ؟!

إن الله جل ثناؤه في سياق الامتنان عليك أيها الإنسان بيّن منافذ المعرفة وطريق الاهتداء إلى معالجة المُدخلات إلى هذه المنافذ، فقال:{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } (النحل : 78 )، والذين ينكرون الغيب مطلقًا يُقال لهم :إن كان المراد بالغيب ما غاب عن الحواس، فإنكار الغيب =إنكارَ العقل، سواء بسواء ! وقد رأيت في مثال المعادلة أن إعمال الفكر هو الذي دلّ على قيمة المجهول في المربع، وهو شيء وراء المـُدركات الحسيّة.

وإن كان مرادهم: الغيب الذي يأتي به الدين خاصّة–أيًّا كان هذا الدين- فيقال هذا تحكّم يعبر عن موقف دوغمائي Dogmatic 1 تعسّفي لا مستند له من العقل إذا كنتم تدّعون الانتساب إلى هذا العقل.

لأن المعوّل في ذلك ليس هو كون الشيء دينيًا أو غير ديني، ولكن دلالة الحجة البرهانية التي دلّ عليها العقل، فحيث دلّ الدليل المعتبر على صحة ما وراء الحواس كان المصير إليه لازمًا في حكم العقل، وكان جحوده كفرًا بالعقل نفسه ، الذي يدعي الانتساب إليه ..

-فإن قيل: نحن نؤمن بما تدل عليه التجربة المخبريّة، ولسنا مضطرين لما وراء ذلك كما يقوله الماديون، قيل لهم : هذا كما لو قيل : العين حدّها أن تنظر إلى زاوية من الأفق لا تجاوزه إلى غيره، مع كون الأفق الرحيب داخلًا في مجالها البصري ..فهو من التقييد المبني على مجرد التحكّم والهوى دون أي دليل، وذلك أن ما دل عليه العقل لا يقتصر على ما كان نتاج تجربةٍ في المعامل، وإنما الاستدلال العقلي يستند إلى وجود خصيصةٍ تلازميّةٍ بين قضايا معلومة وأخرى مجهولة؛ ولهذا جاء الإسلام بقضية الإيمان بالغيب مسلّمةً من كل عيب يمكن أن يوجد في مصادر التلقي التي لا تعتمد على برهان صحيح ،وإنما على مجرد الظن والخرص والأوهام: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم : 23) فحارب لأجل ذلك الكهانة والخرافة والشعبذة، وأنكر الاعتماد على الإلهام أو الخطرات في باب اليقينيات.

-فإن جاء مسفسط وأراد إبطال المستند العقلي فقال مثلًا: ليس العقلُ دليلًا كافيًا للمعرفة أو اليقين، فيقال له: قد قوّضت كل قائم في بنيان العقل بنفسك، ونقضت الدعوى من أساسها؛ لأن هذا الحكم الذي زعمت: (ليس العقلُ دليلًا كافيًا للمعرفة مطلقًا ) =هو نفسه حكمٌ عقليّ، فلو أعملناه على مقولتك انتقضت وامتنع عليك أن تحكم على شيء بأي شيء !

ويمكن إدراك علاقة العقل بالغيب في الإسلام بتقسيم طرق تحصيل المعرفة إلى ثلاثة أقسام:
-ما يعرف بالنظر والاستدلال ..

-ما يكون مركوزًا ضرورة ً في العقل ولا يحتاج إلى استدلال لكونه من الحقائق الضرورية المغروسة في العقل من قِبل الخالق جل جلاله، وذلك كإدراك العقل أن عين الإنسان لا تكون أكبر من الإنسان بما فيها من عين ..

-وما يتلقى بالأخبار فمتعلّقه السمع، فهذا القسم إذا أمكن إقامة الدليل على صدق المخبِر فقد صار الخبر علمًا مثبتًا، سواء كان الخبر من عالمَ الشهادة أو من عالم الغيب .

ولما كان العقل لا يستقل بتحصيل المعارف على وجه التفصيل بل يدرك جملةً من الحقائق على وجه مجمل، كانت وظيفة الرسل هداية الإنسانية في أمرين :
أحدهما –تحصيل اليقين في باب الغيبيات، ودلالة العقل عليها من ثلاثة وجوه :

1-أنه اهتدى عن طريق دلائل النبوة، إلى تحقّق معنى النبوة في شخص هذا الإنسان–صلى الله عليه وسلم- ،فهو نبيّ ورسول من الله العليّ، فكان مقتضى ذلك عقلًا تصديقه في جميع أخبر، وإلا وقع التناقض العقلي .

2-وأن العقل دلّ في حالة الإسلام دون غيره، إما بمطابقة صريح المعقولات لصحيح المنقولات،فما يدل عليه الشرع يكون مدلولًا عليه بالعقل ، وفي كتاب الله الكثير من الدلائل العقلية ، والحجج البرهانية

وإما بالموافقة: بألا تأتي الشريعة بما يحكم العقل بامتناعه ولا بما فيه تناقض {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } (النساء : 82) ،

والثاني-تمثيل الهداية في التشريعات، وكما أن الله مختصٌّ بعلم الغيب: (الغيب المطلق) فهو وحده المختص كذلك بوضع التشريع المناسب لطبيعة ما خلق بحسب ظروفه وأحواله ، في كل زمان ومكان، مع تنزّهه سبحانه عن النقص، فكان وحيه كذلك منزهًا عن النقص.

-وإذا عرفت أن الإنسان ليس آلة صمّاء قوامها التعامل مع المحسوس المحض، بل هو مركّب من عقل وروح وجسد، والروح مع تسليم العقلاء بحقيقتها فهي إلى عالم المجهول أقرب، وإلى عالم الغيب أنسب.. والعقل إنما وظيفته اكتشاف ما وراء المعلوم المحسوس لاستنباط معانٍ خلف ما تدركه أدوات الحس المباشر، ثم تأملت في تطلع هذا الإنسان إلى استشراف ما يختبئ وراء العالم المشهود وتشوفه الملحّ إلى معرفة المجهول.. ومن ذلك :ما يكون في المستقبل - فإنك ستبصر في وجدانك حاسّة خاصّة تحاول التحديق دومًا إلى ما وراء الغيب، فلا ترتوي النفس في تطلعها إلا برسالةٍ سماوية تنبيها عن حقيقة الأمر، وتلبي فيها الحاجة الفطرية لذلك، وليست تثبت هذه الرسالة بالدعوى الخبرية المجردة، كأن يقول فلان: أنا نبي ، وكفى !، ولهذا جاء الإسلام دون غيره يعلن للإنسانية أنه دين مؤسس على أدلة يقينية تشفي غليل الباحث وتكفي العليل الحيران {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }(البقرة : 111)