المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة الملك وشعب المجانين .


فارس
01-10-2017, 11:21 PM
http://www.awda-dawa.com/MakeThumbnail.aspx?file=/App/Upload/articles/7209.jpg&W=200&H=175


تقول الأسطورة إن ملكاً كان يحكم مملكةً يمر فيها نهر. ثم كان أن تلوث هذا النهر بطاعون الجنون فصار الناس كلما شرب أحدهم من النهر أصيب بالجنون حتى جنت المملكة كلها ولم يتبق من العقلاء سوى الملك ووزيره، فحار الملك كيف يتصرف مع شعب كله مجانين وأخذ يخاطب الناس ويأمرهم بالعودة إلى العقل إلا أنهم كانوا يسخرون منه وينظرون إليه بأنه هو المجنون وهم العقلاء، وبعد أن يئس الملك استشار وزيره ماذا يفعل فأشار عليه الوزير بأنه لم يبق أمامهما من حيلة سوى أن يشربا من نهر الجنون حتى يصبحا مثلهما مثل بقية الناس ويكونا قادرين على حكم المجانين..
هذه الأسطورة تحمل دلالات عميقةً.. ربما نضحك منها كونها جاءت بهذه الصياغة الطريفة إلا أننا لو تأملنا واقعنا لوجدنا أنها تلخص حقيقةً اجتماعيةً راسخةً في حياة البشر، فمقياس الصحيح والخاطئ في حياة البشر ليس هو الحق المجرد أو الباطل المجرد بل ما اعتادوا عليه، فما ألفوه من أوضاع هو عين العقل والصواب والحكمة وما لم يألفوه فهو الجنون والضلال والفساد..
ما جعلني أستحضر هذه الأسطورة هو موقف حدث مع صديقي سعيد، وهو أحد محرري الضفة من الذين أبعدوا إلى غزة واستأجر شقةً فيها.. جاءته فاتورة الكهرباء عن الشهر الفائت واحداً وثلاثين شيكلاً.. فذهب ببراءته ونقاوته ليسددها إلى شركة الكهرباء وقال لموظفي الشركة جئت لأسدد الفاتورة.. فلما علموا أن الفاتورة واحد وثلاثون شيكلاً فقط إذا هم منه يضحكون وقالوا له: روح يا عم الله يرضى عنك..
لا أنكر أنني أنا أيضاً حين سمعت القصة من سعيد أخذت أضحك..
مبعث الضحك هو أن الثقافة الشائعة في المجتمع هو أن شركة الكهرباء لا يسدد لها.. وهناك من المواطنين من تراكمت ديون فواتير الكهرباء الخاصة به حتى إنه لو باع منزله الذي يسكنه فلن يكفي ثمنه لسداد هذه الفواتير.
في ظل هذا الخلل العام صار أنموذج سعيد مستغرباً وشاذاً ومثيراً للسخرية وصارت المماطلة في قضاء الدين وسرقة الأموال العامة هي الأصل.
حين نسخر من سعيد لأنه قام بالواجب البسيط الذي كان ينبغي أن يقوم كل واحد منا به فإننا نبعث له رسالةً بأن يشرب من نهر التلوث الذي شربنا منه حتى نكون سواءً، ولا يكون له علينا فضل فيحرجنا بسموه وارتقائه.
إن البشر حين يعتادون على قيم معينة تصبح هي الطريقة المثلى مهما كانت شاذة ومخالفة لقانون الفطرة ويصبح الخروج عن هذا الشذوذ مستنكراً، فهذا فرعون رمز الفساد يريد قتل موسى بحجة محاربة الفساد "إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ"، وفي آية أخرى يقول فرعون محذراً قومه من موسى وأخيه: "ويذهبا بطريقتكم المثلى"، ففرعون يرى أن ما هو عليه من استبداد وفساد هو الطريقة المثلى التي يجب أن تستمر، ويجب أن تقاوم كل المحاولات لتغييرها..
أضرب مثلين آخرين من القرآن الكريم على هذه الحقيقة الاجتماعية، المثل الأول لقريش حين تعجبوا من دعوة التوحيد التي جاء بها النبي محمد عليه الصلاة والسلام "أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب".. فصار التوحيد عندهم هو الشاذ والشرك هو الحق..والمثل الثاني مثل السوء قوم لوط حين شاعت بينهم الفاحشة وعمت حتى صار الطهر تهمةً جديرةً بالعقاب "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"!!..
لكن الحق يبقى حقاً والباطل يبقى باطلاً مهما انحرفت مقاييس البشر ومهما تلوثت أذواقهم.. والجماعة كما قال أحد السلف هي أن تكون على الحق ولو كنت وحدك..