المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لله در العاشقين ..


فارس
01-12-2017, 12:09 AM
كان فتى من أبناء التجار , بارع الفتوة, واسع الغنى ,قد جمعت له اللذائذ وسيقت إليه المنى , دكانه البحر تنصبُ فيه جداول الذهب , ودارة الجنة تجري من تحتها الأنهار , وفيها الحور العين , خمسون من الجواري الفاتنات اللائي حُملن إلى بغداد من أقطار الأرض وحشدن فيها , كما تحمل اإلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في الروض وزهرة جميلة في الجبل ...

ولكنه لم يشعر بنعم الحياةومتعة العيش حتى اشترى هذه الجارية بخمسمئة دينار . وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالا أحلى من أحلام الحب , وأجمل من بلوغ الأماني , وأطهرمن زنبقة الجبل , فهام بها هياماً , وزاد فيها حتى بلغ بها هذا الثمن . وانصرف بها إلى داره وهو يحسب أنه قد حيزت له الدنيا وأمتع بالخلود , واشتغل بها وانقطع إليها , ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها , ويزلزله الشوق إليها , وتدركه هواجس الحب فيغار عليها , لا من الناس فما يصل الناس إليها , بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس , ومن النسيم أن تلمسها يد النسيم ! ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبة فيهرع إليها ليطفئها بلقاها ؟ ؟؟؟


لقد صار هذا الحب مصدر لذته وسر حياته , ما كان يدري من قبله ماللذة وما الحياة , وما كان يحس أن يعيش حقاً ,ان له قلبا , وما كان يدرك من قبل بهاء النهار , ولا فتنة الليل , ولا سحر القمر , كان ذلك عند كالألفاظ بلا معنى , يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب , فلما عرف الحب أدرك أن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد وتستهوي القلب . وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم , فطلع عليه هذا الحب نوراً مشرقا أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع .

وتتالت الأيام , وزاد إقبالاً عليها وإعراضاًَ عن الدكان . وكان يبصر دنياه تدبر عنه وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج , وتتبدد كما يتبدد الندى في وهجج الشمس , ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفر منه , ولا يزداد إلا تعلقا به وتمسكا بأهدابه . وكان كل ما في الحياة من متع لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال , وذهب الأرض كله لا يساوي هناءة من هناءات الحب , فكان يترك البائعين والمشترين ويسعى إليها ليشتري منها اللذاذات والقبل .

وكانت كلما نصحته وأرداته على العود إلى تجارته قال لها : مالي وللمال ؟ أنتي مالي وتجارتي ومكسبي , فلا تستطيع أن تفتح فمها بجواب لأن شفتيه تقيدان فمها فلا ينفتح !!!!

وأصبح الرجل ذات يوم فإذاالتجارة قد بارت , وباد المال , وذهب الأثاث , وبيعت الجواري , ولم يبق في يده شيء يباع فأقبل ينقض الدار ويبيع انقاضها , ولم يأس على ذاهب ولم يحس بفقد مفقود , فقد كان يلقى الحبيبة ويجد في حبها غذاءه إذا جاع , وريه إذا عطش , ودفئه إذا برد , وفي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد , وفي ثناياها بديلاً من اللآلئ , وفي ريقها عسله المصفى وخمره المعتق , ومن ريحها قصرا عامراً , والصحراء روضة مزهرة , والليل المظلم معها نهاراً مضيئاً ...

وأثمر الحب وجاء الحصاد , ولكنه قدخالف موعده , فلم يجيء في الربيع الطلق ولا في الصحو الجميل , بل قدم في الشتاء الكالح والأيام القاتمة الدكناء , أيام الفقر والعوز ... وأخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة , وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط , وفراض بلي وجهه وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب . وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أن ألمها في ضلوعه , وأن كل صرخة منها سكين محمى يحز في قلبة , ولكنه لا يملك لها شيئا . وقالت له بعد أن عجزت عن الإحتمال : إني أموت ... فاذهب فاحتل بشيء تشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً . اذهب وعجل , فإنك إذا أبطأت لم تجدني ...

وخرج , وصار يعدو كالمجنون . أين يذهب والليل قد مالت نجومه ؟ والناس نيام في دورهم , ولا يجد من يلجأ إليه , فقد فصلة الحب عن الدنيا وصيره غريبا فيها , وليست منه ولا هو منها . وكذلك يصنع الحب !!

وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر , جسر بغداد , وكان الليل خاشعا ساكنا والناس قد أموا بيوتهم وأنسوا بأهليهم , وهو الوحيد الشارد , لا أهل له إلا التي خلفها تعني سكرات الموت وعجز عن إسعادها , ولا دار له إلا هذه الخرب التي فر منها .

لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه , وها هي ذي تموت فلا يبقى له في دنياه حظ , وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها من نور . وتصور الوحشة المخيفة والوحدة المرعبة التيسيقدم عليها إن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعيش بها ولها , ونظر إلى ماء دجلة يجري أسود ملتفاً ببرد الليل , فأحب أن تواريه أحشاؤه , وتراءى له الموت حلوا فيه متعة اللقاء وأنسة الإجتماع .

وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها وعجزه عن معنوتها وإسعادها , فتوجه إل الله ودعاه من قلبه صادقا مخلصاً وقال يا رب , إن استودعتك هذه المرأة وما في بطنه .... , وهم بإلقاء نفسه في الماء , وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب ورؤاه , ولم يعد يرى إلا هذه الهوةالتي سيتردى فيها , وتسلق درابزين الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور برودة الماء ويفكر الموت هل يأتيه هيناً أم هو سيذيقة العذاب ألوناً , وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى , هل يختنقون عاجلاً أم يبطئ عليهم الموت ؟ ....

وسمع : حي على الصلاة , حي على الفلاح . فرأى مجد الآخرة بالعبادة ومج الدنيا بالنجاح , وصبت القوة والعزم في أعصابة فعدل عن الموت . ورجع إلى الدار فرأى فيها نساء من نساء الجيران سمعن صوتها , فجئن إليها فسألن عنها . وكانت مغمى عليها فحسبوها ماتت . وأخبروه بموتها فلطم وجهه وشق ثوبة , وانطلق ماشيا على غير هدى تقذفة قرية فتتلقاه قرية . يضيفة الناس . وجعل يطوي الأرض حتى حطت به النوى في خراسان .

ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مساعدا معينا فعاد إلى تجارته وجعل يفكر ويكتب الكتب يسأل ويستنجد ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتابا ولم يرجع إليه جواب .

وتصرمت السنون وأخذ يفكر في مآله ومآلها , عزم على العودة فقام وباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار . واشترى قماشا وحمله في قافلة , وفي طريقة إلى بغداد خرج عليه اللصوص فنهبوا ماله كله وقتلوا من فيهم ولم يتركوا أحد ..

نهض من بين الموتى وسار على رجليه ومشى حتى حاذا النهر , وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق فلما حاذاه أشار ونادى وسأل صاحبة أن يحمله إلى بغداد وكان فيه أمير كبير . ولكن الديموقراطية كانت شعار العرب وسليقتهم . فحمله الأمير ونزع عليه من الحلل والديباج الشيء الكثير .

ثم وصل إلى بغداد وتوجه إلى بيته فلم يجده بل وجد مكانه بنياناً آخر . فقال سبحان العزيز الجبارمصرف الأكوان .

وولى ليعود فيضرب الأرض , فلم يعد له مكانا يقله أو حتى يواري عظامه فيه . والتفت فرأى بقالة كان يعرفها فسأل عن صاحبها فاخبروه بأنه ولد هذا البقال ومات أبوه منذ عشرين سنة وأن الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله , وأن لهذا الرجل قصة عجبا , فقد كان أبوه من سراة التجار , فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر , وجاءها المخاص فذهب يطلب لها شيئا فلم يعد وأسعفها البقال أبو الفتى . ثم ولد للرشيد مولد فطلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهن , فدل على الجارية فقبل ثديها وصارت ظئره . ,كان المولد هو أمير المؤمنين المأمون .

ويدعه الرجل ويركض حتى وصل إلى هذا الشاب فقال له ما تبتغى ؟
فخفق قلبة وتلاحقت أنفاسه , وهملت مقلتاه . ولم يجد ما يمهد به الحديث , فقال له انا ابوك !!
ونظر الشاب شاكاً , وقال له اتبعني .
فأتبعه , فاجتاز به صحنا بعد صحن حتى انتهى به إلى مكان الحُرَم , فأقامه أمام ستارة وذهب ليسأل أمه , ودل الرجل قلبة على أن الحبيبة وراءالستارة فناداها , وإذا الستارة تهتك . والمرأة تثب إلى عنق الرجل , تبكي وتضحك , وتضحك وتبكي . وتقول ما لاتدريه ..

ويدر الشاب وجهه , فما يحسن به أن ينظر إلى أبويه وهما يجددان عهود الهوى والشباب ..