المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المشردة


فارس
05-14-2017, 12:34 AM
المشردة





مهــا فتاة مشردة تعيش في الشوارع بين الأزقة والسكك .. تنام على الأرصفة .. تشحذ المال من هذا وذاك .. تضطر أحيانا أن تبيع جسدها حتى للجيف مقابل حفنة من النقود لتسد جوعها , كانوا أصحاب المحال والمطاعم يطردونها ويشتمونها ويضربونها لكي لا تقف أمام دكاكينهم , كانت تنتقل من مدينة إلى أخرى .. قرية تلو قرية .. من مكان لآخر .. تهرب من الأعين .. تهرب من قلوب قست .. تذهب إلى مكان مــا علها تجد من يتعاطف معها وينتشلها مما تعيشه .





مرت بهــا أيامٌ ثلاث لم تذق خلالهما الطعام .. تتضور جوعا في تلك المدينة الهادئة التي أنتقلت إليها والجميع يمر قبالتها ويحسبونها قمامة أو دون ذلك .. فلم ينظر إليها أحد ولم يتصدق عليها أنسان ولو برغيف خبز , وبينما هي كذلك تتلافت يمينا وشمالا في ذلك الشارع الخالي من المارة إذ برجل يمـــر قبالتهـا , فلحقته .. وراحت تطلب منه المال وتتوسل إليه الصدقة , ألا أنه لم يلتفت إليها بل تابع مسيره .. ولكنها لم تيأس فالجوع وصل بها حدود الكفر , فقالت له :


- يا هذا ! ما رأيك لو تعاشرني مقابل المـــــال ؟




ألا أنه ظل يمشي في دربه غير مهتم بهـــا حتى أختفى عن نظرهــا , شعرت بالأحباط والقهر والحسرة .. جلست على الرصيف تندب حظها النحس ومرارة الأيام .. تشتكي الجوع واليُتم والشتات .. تبكي الضيم والفقر والوحدة , تخاطب ذاتها :

- أليس هناك أحدٌ في قلبه ذرة شفقة يتعاطف معي , ألا يوجد من يرأف بحالي .. أريد طعام فقط .. لا أريد شيئا يا دُنيــا لا أريد شيء .. حتى أمي وأبي لا أريدهما .. فقط أريد أن أأكُـــــل !



وبينما هي في غمرة حزنها وشكواها أحست بأن هناك من يقف قريبا منها .. وحينما نظرت إليه تبين لــها بأنه الرجل الذي مر بها قبل قليل .. لحظات حتى قال لــها :

- تـــعالي معي .!



نهضت وذهبت معه دون تــردد فالجوع أذلها وفعل بها ما فعل بأقوام خلت .. كان هادئــا جدا لا يتكلم بينما هي تسير خلفه إلى أن وصل شقته , وما أن دخلوا قال لـــها :

- أسمعيني جيدا , لا أريد منك شيئا .. هذه الثلاجة وهذا الطعام على الطاولة .. تناولي ما تشائين ثم نامي جيدا لأنك في الصبح ستغادرين , ولكن لا أريد منك أن تتكلمين معي أو تسألين أي شيء , حسنــا !



ذهب الرجل وأستلقى على سريره وغطى في سباته , بينما هي راحت تأكل بنهــم .. تأكـــل وتأكل وتنظر في أرجاء الغرفة وترى عدد من الكتب المختصة بالذنب والتوبة مما لفت نظرها لذلك .. تسأل عن ذنب الرجل الذي أرتكبه وجعله يبحث عن الخلاص والتوبة , أستلقت هي الأخرى على السرير وغطت في نومهـــا على نغمات الأثم .



جلست صباحــا والرجل قد أعدى لــها الفطور , ألا أنـها سألته عن الذنب :

- ما حكاية هذه الكتب ؟



أجابــها بهدوء :

- أخبرتك بالأمس بألا تتحدثيـــن معي , تناولي طعامك وغادري !



أكلت حتى الشبع , وبعدها شكرته على طيبته وكرمه وشهامته ثم همت بالمغادرة .. عند ذاك نادى عليها الرجل وأعطاها حقيبة سوداء , وقال لـها :

- ما بداخل هذه الحقيبة هو ملك لك .. فلا تفتحيها ألا بعدما تبتعدين من هنــــا !



سألته مها بدهشة :

- وما بهـــــا ؟



الرجل :

- قلت لك لا تسألين .. هيا أنصرفي الآن .!



خرجت من البناية بسرعة والفضول قد قتلها والوسواس تلاعب بها وأسئلة كثيرة تجول بخلدها عما بداخل هذه الحقيبة , ظلت تهــرول وتهرول إلى أن أبتعدت عن الشقة وفتحت الحقيبة ! مفاجــأة سارة الذي رأته .. كانت مليئة بالنقود ما يقرب من 500 ألف دولار , دمعت عيناها فرحا لحظتها .. أخيرا الحياة تبسمت لــها .. أخيرا وبعد طول أنتظار وبعد عذاب وصبر .. راحت تلامس المــال .. تلامس النعيم بيديها الجافة التي ما لا مست الراحة قط .



أنقضت خمسة أيــــامً بعدها ومها قد أستأجرت لنفسها شقة فاخرة .. تشتري لنفسها ما تشتهي من اللباس .. تأكل ما تحب من الطعام .. وجدت الطمأنينة بعد الشتات .. والراحة بعد العذاب .. والهدوء بعد الضجيج .. والحياة بعد الموت , ألا أنها كانت منشغلة بشيئا آخر .. منشغلة بالرجل الذي أعطاها كل ذلك .. لما فعل لــها ما فعل ؟ ولما أعطاها حقيبة النقود ؟ تلك الأسئلة شلت من تفكيرها ليل وضحى .. إلى أن قررت نهاية الأمر أن تذهب إليه وتســــأله .



وصلت لشقته وراحت تطرق الباب وتطــرق ! ولكن لا أحد .. لا شيء .. لا همس .. لا صوت .. لا حركة , بسرعة ذهبت إلى حارس البناية تستفسر منه ! فأخبرها بأن الرجل غادر قبل أربعة ايـــام ولم يعد , أزدادت هواجسها وحيرتهــــا .. فما الخبر ؟ وما حكاية هذا الرجل ؟



رجعت شقتها والغموض قد تلاعب بــها , جلست تشاهد التلفزيون تتنقل بين المحطات وكأنها تبحث عن من أعطاها الحقيبة , وبينما هي كذلك قد لفت نظرهــا وشد أنتباهــها بأن القنوات الأخبارية كانوا يضعون صورة الرجل ويتحدثون عنه ؟



أصيبت فوق دهشتها بدهشة فكل شيئا بات غريبا والأمور تزداد غموضا وتعقيدا ولغـــز يصعب حله , تحاكي نفسها :

- سحقــا !

- أنه الرجل !

- ماذا به جميع المحطات تتحدث عنه ؟



رفعت صوت التلفزيون إلى آخره .. أستمعت جيدا .. تبين لــها أغرب شيئا لم تتخيله .. بأن الرجل هو "قاتل مأجور" وقد سلم نفسه للشرطة .. وصدر بحقه حكمً بالأعدام شنقا لجرائمه .



مصدقة مكذبة .. تقوم من مكانها وتجلس .. تخطو إلى الأمام خطوة وترجع للخلف خطوتين .. تتمتم بين نفسها :

- ويحي ,

- هل هو قاتــــــل حقا ؟

- لكن كيف ذلك ؟

- هل الكتب في شقته بسبب هذا الأمـــــر !

- ولكن لما سلم نفسه ؟



اسئلة كثيرة وكثيرة شغلتها .. لا تدري ما العمل ! لا تدري ماذا تصنع ! فالرجل أعطاها ما لم يعطيها أحد .. فعل لــها ما لم يفعله أحد .. أشفق بــها حينما كانت قلوب الجميع صخر , شعرت بأن هناك شيئا خطأ في كل ذلك .. أحست بقشعريرة غريبة لم تنتابها من قبل .. حتى قررت نهاية الأمر أن تذهب لزيارته .



دخلت غرفة الزيارة تنتظــره إلى أن وصل .. فباغتها بسؤال :

- ماذا تفعلين هنا ؟



مها بلا تردد :

- هل حقـــا أنت قاتل ؟



الرجل :

- أذهبي في حال سبيلك يا فتاة !



مهــا على ألحاحها :

- لا .. لن أذهب .. لن أذهب حتى تخبرني بالحقيقة .. تخبرني بالحقيبة .. تخبرني حكايتك ؟



كرر الرجل :

- قلت لك أذهبي !



مها قالت له بنبرة حزينة ما يجول بخاطرها وما تعتقد به وكيف نظرتها إليها :

- في الحقيقة , لا أظنك بقاتل .. ولا أدري لما أعترفت بهذا .. أنك ملاك لست ببشر .. أنك شهم لست بنذل .. أنك الوحيد الذي وقف إلى جانبي وساعدني .. أنت من نظر إلي دون غيرك .. أنك الذي أشفق بي وتعاطف معي .. أنت من أعطاني الحياة وأنا ميتة .. أنك من عالــم آخر ليس عالمنا .. أنت لا تستحق أن تقتــــــل ..!



بعد لحظات صمت أنتابت الرجل , سألــــها :

- هل تظنينني أستحق الحياة ؟



مها :

- نعم , بالطبع .



الرجل :

- هل تدركين بأني قاتـــــــل ؟



مها :

- لا يهمني ذلك , لا يهمني وأن كانت حقيقة .. هل رأيت حياتي وكيف عشتُها .. كنت مشردة .. ذاك يهينني والآخر يشتمني والثالث يصفعني .. صدقني رأيت الكثيريـــن ممن يستحقون القتل ولا أظنك منهـــــم !



الرجل قال ما يشعره بالذنب :

- لست نادما عما فعلت وعمن قتلت .. فقط هناك جريمة واحدة ندمت عليها , حينما قتلت رجل وزوجته وهما في سيارتهما ؟



مها سألته متعجبة :

- ولما هم دون غيرهم , ولما تخبرني بهذا ؟



لم يتكلم الرجل .. بل نادى على حارس السجن ليعيده لزنزانته .. بينما مهــا أحست بشيئا مـــا وراحت تصرخ فيه :

- أخبرنـــي , لما هم ندمت عليهم لا غيرهم ؟



توقف قليلا .. وقال بعدها :

- بسبب شيئا رأيته قد كسر ظهري .. شيئا لم أظن يومً بأنني تسببت به .. شيئا تمنيت لو أن الأرض أنشقت وأبتلعتني ولا أرى ما رأيت ..!



مها قالت في حيرة وقد بدأت تتذارف منها الدموع :

- وماذا رأيت ؟



نظر إليها الرجل وقال :

- أنــتي !



مها :

- وما بــــي ؟



الرجل قال لــــها ما لا يصدق :

- حينما كنتِ نائمة في شقتي ووضعتي قلادتــك التي تحمل صورة أمك وأبيك على الطاولة .. رأيتهـمــا .. رأيت صورتيهما .. وعندما رأيتهما تذكرت شيئا .. تذكرت بأنني الذي قتلتهمــا ! لقد كلفوني في مهمة تلك الليلة أن أقتل والديك وطفلتهما أي أنــتي .. لقد كنتِ في مقعد السيارة الخلفي في مهدُكِ .. لكنني لم أفعلها .. لم استطع قتلك .. لم أقدر على أطلاق رصاصة عليك , ولكن بعدما قتلت والديك سمعت بكاءك .. سمعت صراخك .. رأيت دموعك .. رأيت يديك تدعو .. وحينما رأيتك على الرصيف سمعت بكاءك أيضا .. وسمعت صراخك .. ورأيت دموعك .. ورأيت يديك تدعو .. وما أشبه اليوم بالبارحة .. وما أشبه الطفلة بالفتاة .. وما أشبه الجروح في القلوب .. وما أشبه البريئة بالمشردة , عندما نظرت إليك رأيت ما لا يحتمله قلب .. ما لا يحتمله أحد .. رأيتك مشردة .. يتيمة .. فقيرة .. تمارسين الرذيلة .. ضائعة تبحثين عن السكينة .. خائفة تبحثين عن أمـــان .. مقهورة تبحثين عن فــرج .. باكية تبحثين عن حضــن .. مشتتة تبحثين عن أمل .. منكسرة تبحثين عن سند .. مهزوزة تبحثين عن حلم .. لم أتخيل يومــا بأنني السبب لكل ما تعانين , طوال هذه السنين أردت التخلص من هذا الذنب .. أردت التوبة من هذا الأثـــم .. كل هذه الأعوام كنت اســـأل نفسي : هل سيسامحني الله على خطايــاي وذنوبي ؟ حينما أعطيتك كل ما أملك من مـــال .. لم يعد لدي هدف في هذه الحياة ..لأنني أشعر بأن المــال أو غيره لن يسدد ديوني .. ومهما فعلت فلن أستطيع تعويضك ما سلبته منك .. فــ كانت أفضل طريقة لأعاقب بها نفسي ... الأعدام فوق المشنقة .