أهلًا و سهلًا بكـ يشرفنا تسجيلك و مشاركتك معنا .

 

 



إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-06-2017, 06:45 AM
فارس فارس غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Aug 2016
المشاركات: 37,047
افتراضي .. لن أرتدي سوى الأبيض ..



منذ أن توفي والدي - منذ ٣ أيام - و السماء لم تتوقف عن الإِمطار , و كأنها قررت مشاركتي الدموع في أوجِ أيام العزاء ..

توقفت في منتصف مطبخي الصغير و الذي يتوسط هذا الكوخ الخشبي , و وضعت بعض الماء الساخن في الإبريق و تركته يغلي على الفرن ، الذي يبدو بأنه سيوضع في مزاد علني للتحف الفنية القيّمة ; نظرًا لامتلائه بالألوان الناتجة عن الاحتراق و الانسكاب المتكرر لكل شي أطهوه تقريبًا , فأنا لازلت في السادسة عشر و لم أرِث من أمي - رحمها الله - فن الطهي ! .

تركت الإبريق فوق تلك الشعلة الصغيرة و استغرقت في النوم واضعةً رأسي على تلك المنضدة الخشبية التي تحمل آنيةً زجاجية مملوءة بالزهور البرية الأرجوانية , زهورٌ اقتطفها والدي المرحوم قبيل وفاته بساعات .

لم تذبُل أسرة الزهور تلك بالرغم من مرور عدة أيامٍ عليها ، و كأنها تعِدني بأن تزوّدني بذكرى أبي ما بقِيت حيّة !

نِمت و أنا أحلم بوالدي , و أحلم بأنه قرر أخيرًا بعد ١٠ سنوات أن يضع رأسي في حُجُرِه و يروي لي قصةَ ليلى التي قيل بأنها حدثت في الغابة التي تُجَاوِر غابتنا , و لكنّي استيقظت بضيق على صوت صفير الإبريق الذي يبدو بأن الماء فيه سينسكب للمرة الألف على الفرن مُحدِثًا بقعة صدأ ستزيد من قيمته في المزاد !.

أطفأت النار و بدأ باحتساء الماء الساخن مع القليل من السكر فقط , و عادت بي الذكرى إلى والدي .
منذ ١٠ سنوات و هو يتصرف بغرابة ، منذ ١٠ سنوات وهو يعاني من نوبات غريبة , فيقف بالقرب من الباب و يسألني برعب : من أنتِ ؟! , و في كل مرة كنت أضحك على تلك النوبة - التي حسبتها تمثيلًا - و أردُ قائلة : أبي توقف عن ذلك , إنه يبدو حقيقيًا للغاية ! , و لكنه لم يكن ليستمع إليّ , و يذهب للجلوس على إحدى الكراسي الخشبية و هو يحدق في الأرجاء و سرعان ما يستعيدُ صوابه .
و يومًا بعد يوم , و عامًا بعد عام , كان وضعه يزداد سوءً , و لكني كنت صغيرة , فظننت أن تمثيله يزداد جديّةً و براعة , فقد كان يسألني عمّن أكون و يظل على تلك الحالة و ذاك السؤال المعلّق لأيام ..!

و لكن قبل ٣ سنوات تقريبًا , استوعبت بأنه جادٌ في سؤاله و تصرفه , فذاك اليوم لم أُجِب عن سؤاله سوى بضِحكة , فدفعني بقوة على الأرضية محذرًا إياي من الاقتراب منه ; مدعيًا بأنّي سارقة و سآخذ كل ما يملك و أهرب ! .

منذ تلك الحادثة المشئومة و أنا أعيش في ظلامٍ داخل ظلام , ظلام الغابة السوداء ، ظلام كوخنا المُعتِم و الظلام الذي بدأ يكتسي وجه أبي ! .

لم أعد قادرة على تحمل الوضع , فقبل أسبوع لجَئتُ إلى القُرى المجاورة لنا , و قد سمعت بوجود شخص يدعى : طبيب .

سألت السكان عمّا يفعله هذا الرجل بالضبط , فصرخوا قائلين : إنه كالسحر تمامًا ، يزيل المرض و يجبُر الكَسر و يشفي المعتلّ , التقطت الكلمة الأخيرة ( معتلّ ) و أنا اتجه نحوه قائلة : سيدي ، أظن بأن الحنان في والدي معتلّ , أيمكنك شفاؤه ؟ , نظر إلي بشفقة و إلى وشاحي الممزق و هو يقول : خُذيني إليه .

ذهبنا سويًة و أنا أخبره عن أبرز ما كان يفعله والدي طيلة السنين الماضية ، و ما أن رأى الطبيب والدي حتى قال لي : أيتها الصغيرة , إن والدك يعاني من ألزهايمر ! , علينا أخذه إلى المصحة .

لم أفهم عمّا كان يتحدث ! , و لا عن معنى ألزهايمر أو المصحة , و لكنّي أجبته بما اعتدت أن أسمعه من والدتي : لا نملك المال الكافي لفِعل ذلك .

هز رأسه بتفهُم قائلًا : لا عليكِ سأُرسل بطلب بعض الممرضين ليعتنوا به في منزله , قد يستغرق وصولهم أسبوع .

لم أعي معنى ممرضين و لكنها كلمةٌ قريبة لكلِمةِ : مرض , و أنهم أشخاص يزيلون المرض على ما يبدو .

مرّ أسبوع و أبي على حاله حتى أتى ذاك اليوم الذي خرج فيه من الكوخ بعدما تشبعت الأرض و الهواء من رائحة المطر , توجه نحو إحدى الصخور و هو يحدق خلفها و يمد يده مقتطفًا حزمة من الزهور الجميلة , التفت إلي قائلًا : عزيزتي , ضعيها في آنية على منضدة المطبخ .

توجهت إليه بخوف و أنا أمد يدي إلى يده لأخذ الزهور , و لكنه امسك بيدي الصغيرة و قبّلها قائلًا : ما أجملك !

ابتسم و امسك بيدي و عدنا إلى ذاك الكوخ الصغير . استلقى هو على فراشه و أنا ذهبت للاعتناء بالزهور . ظللت أحدق بها لساعتين تقريبًا حين سمعت صوت أبي مُناديًا : ليلى ، تعالي إلى هنا .

توجهت إليه و الدموع تملأ عيناي , لقد بدأ بتذكري أخيرًا !

جلست بجانبه و قد بدا وجهه شاحبًا جدًا , قال لي و هو يمسح على خدي : أتعلمين لماذا لم أحكي لكِ قصة ليلى قط ؟

هززت رأسي بالنفي ، فأكمل قائلًا : لأن تلك القصة تعرضت للكثير من التحريف , وهي ليست مسلّية كما تظنين , فالذئب لم يأكل الجدة أبدًا , و لكنه أكل والدتك ! . لم أكن أريدك بأن تحلمي بذلك أثناء نومك و تتوقفي عن التجول في الغابة كعادتك , هل فهمتي الآن ؟! .

ظللنا نحدق في أعين بعضنا البعض و نتشارك حديث العيون , ذاك الحديث الذي لا يتخلله كذبٌ أبدًا .
نمت بجانبه بشعورٍ لم يباغتني من قبل , و لكن هو كان قد نام إلى الأبد !

صحوت من تلك الذكريات و أنا أحدق في فستاني الأبيض , و أتذكر حديثي مع ذاك الطبيب بعد الدفن . سألته بعد فوات الأوان : ماذا يعني ألزهايمر ؟ , كيف يبدو الوضع ؟

فهمس لي بمواساة : لا أعلم .. و لكن الأمر أقرب بأن لا تتذكري شيئًا أبدًا , و كأنك تحدقين في بياضٍ طوال عمرك ! .

منذ أن قال لي ذلك , و أنا لا أرتدي سوى فساتيني البيضاء فقط , طالما هو اللون الذي سيتمكن أبي من رؤيتي خلاله ..

__________________
FARES
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:24 PM.