أهلًا و سهلًا بكـ يشرفنا تسجيلك و مشاركتك معنا .

 

 



إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 10-03-2015, 12:23 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة التاسعة


تكملة حكاية الصياد مع العفريت
وبداية حكاية الحمال مع البنات






قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية الساحرة ، لما أخذت شيئاً من هذه البركة وتكلمت عليه بكلام لا يفهم تحرك السمك ، ورفع رأسه وصار آدميين في الحال ، وانفك السحر عن أهل المدينة وأصبحت عامرة والأسواق منصوبة ، وصار كل واحد في صناعته وانقلبت الجبال جزائر ، كما كانت ثم أن الصبية الساحرة رجعت إلى الملك في الحال وهي تظن أنه العبد ، وقالت :
يا حبيبي ناولني يدك الكريمة أقبلها .
فقال الملك بكلام خفي : تقربي مني .
فدنت منه وقد أخذ صارمه وطعنها به في صدرها حتى خرج من ظهرها ثم ضربها فشقها نصفين وخرج فوجد الشاب المسحور واقفاً في انتظاره فهنأه بالسلامة وقبل الشاب يده وشكره فقال له الملك :
تقعد مدينتك أن تجيء معي إلى مدينتي ?
فقال الشاب : يا ملك الزمان أتدري ما بينك وبين مدينتك ?
فقال : يومان ونصف .
فعند ذلك قال له الشاب : إن كنت نائماً فاستيقظ إن بينك وبين مدينتك سنة للمجد وما أتيت في يومين ونصف إلا لأن المدينة كانت مسحورة وأنا أيها الملك لا أفارقك لحظة عين .
ففرح الملك بقوله ثم قال : الحمد لله الذي من علي بك فأنت ولدي لأني طول عمري لم أرزق ولداً .
ثم تعانقا وفرحا فرحاً شديداً ، ثم مشيا حتى وصلا إلى القصر وأخبر الملك الذي كان مسحوراً أرباب دولته أنه مسافر إلى الحج الشريف فهيئوا له جميع ما يحتاج إليه ثم توجه هو والسلطان وقلب السلطان ملتهب على مدينته حيث غاب عنها سنة .
ثم سافر ومعه خمسون مملوكاً ومعه الهدايا ، ولم يزالا مسافرين ليلاً ونهاراً سنة كاملة حتى أقبلا على مدينة السلطان .
فخرج الوزير والعساكر بعدما قطعوا الرجاء منه وأقبلت العساكر وقبلت الأرض بين يديه وهنؤه بالسلامة فدخل وجلس على الكرسي ثم أقبل على الوزير وأعلمه بكل ما جرى على الشاب ، فلما سمع الوزير ما جرى على الشاب هنأه بالسلامة .
ولما استقر الحال أنعم السلطان على أناس كثيرون ، ثم قال للوزير علي بالصياد الذي أتى بالسمك فأرسل إلى ذلك الصياد الذي كان سبباً لخلاص أهل المدينة فأحضره وخلع عليه وسأله عن حاله وهل له أولاد فأخبره أن له ابناً وبنتين فتزوج الملك بإحدى بنتيه وتزوج الشاب بالأخرى ، وأخذ الملك الإبن عنده وجعله خازندارا ، ثم أرسل الوزير إلى مدينة الشاب التي هي الجزائر السود وقلده سلطنتها وأرسل معه الخمسين مملوكا الذين جاؤوا معه وكثيراً من الخلع لسائر الأمراء . فقبل الوزير يديه وخرج مسافرا واستقر السلطان والشاب . وأما الصياد فإنه قد صار أغنى أهل زمانه وبناته زوجات الملوك إلى أن أتاهم الممات ، وما هذا بأعجب مما جرى للحمال .
فإنه كان إنسان من مدينة بغداد وكان حمالاً ، فبينما هو في السوق يوماً منا الأيام متكئاً على قفصه إذ وقفت عليه امرأة ملتفة بإزار موصلي من حرير مزركش بالذهب وحاشيتاه من قصب فرفعت قناعها فبان من تحته عيون سوداء بأهداب وأجفان وهي ناعمة الأطراف كاملة الأوصاف ، وبعد ذلك قالت بحلاوة لفظها :
هات قفصك واتبعني .
فحمل الحمال القفص وتبعها إلى أن وقفت على باب دار فطرقت الباب فنزل له رجل نصراني ، فأعطته ديناراً وأخذت منه مقداراً من الزيتون وضعته في القفص وقالت له : احمله واتبعني .
فقال الحمال : هذا والله نهار مبارك .
ثم حمل القفص وتبعها فوقفت عند دكان فاكهاني واشترت منه تفاحاً شامياً وسفرجلاً عثمانياً وخوخاً عمانياً وياسميناً حلبياً وبنو فراده شقياً وخياراً نيلياً وليموناً مصرياً وتمر حنا وشقائق النعمان وبنفسجاً ووضعت الجميع في قفص الحمال وقالت له : احمل .
فحمل وتبعها حتى وقفت على جزار وقالت له : اقطع عشرة أرطال لحمة .
فقطع لها ، ولفت اللحم في ورق موز ووضعته في القفص وقالت له : احمل يا حمال .
فحمل وتبعها ، ثم وقفت على النقلي وأخذت من سائر النقل وقالت للحمال : احمل واتبعني .
فحمل القفص وتبعها إلى أن وقفت على دكان الحلواني واشترت طبقاً وملأته جميع ما عنده من مشبك وقطايف وميمونة وأمشاط وأصابع ولقيمات القاضي ووضعت جميع أنواع الحلاوة في الطبق ووضعته في القفص .
فقال الحمال : لو أعلمتني لجئت معي ببغل تحمل عليه هذه الأشياء .
فتبسمت ، ثم وقفت على العطار واشترت منه عشرة مياه ماء ورد وماء زهر وخلافه وأخذت قدراً من السكر وأخذت ماء ورد ممسك وحصى لبان ذكر وعودا عنبر ومسكاً وأخذت شمعاً اسكندرانياً ووضعت الجميع في القفص وقالت للحمال : احمل قفصك واتبعني .
فحمل القفص وتبعها إلى أن أتت داراً مليحة وقدامها رحبة فسيحة وهي عالية البنيان مشيدة الأركان بابها صنع من الأبنوس مصفح بصفائح الذهب الأحمر ، فوقفت الصبية على الباب ودقت دقاً لطيفاً وإذا بالباب انفتح بشقتيه .
فنظر الحمال إلى من فتح لها الباب فوجدها صبية رشيقة القد قاعدة النهد ذات حسن وجمال وقد واعتدال وجبين كثغرة الهلال وعيون كعيون الغزلان وحواجب كهلال رمضان وخدود مثل شقائق النعمان وفم كخاتم سليمان ووجه كالبدر في الإشراق .
فلما نظر الحمال إليها سلبت عقله وكاد القفص أن يقع من فوق رأسه ، ثم قال :
ما رأيت عمري أبرك من هذا النهار .
فقالت الصبية البوابة للدلالة والحمال : مرحبا .
وهي من داخل الباب ومشوا حتى انتهوا إلى قاعة فسيحة مزركشة مليحة ذات تراكيب وشاذر وأثاث ومصاطب وسدلات وخزائن عليها الستور مرخيات ، وفي وسط القاعة سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر منصوب عليه ناموسية منا الأطلس الأحمر ومن داخله صبية بعيون بابلية وقامة ألفية ووجه يخجل الشمس المضيئة ، فكأنها بعض الكواكب الدرية أو عقيلة عربية كما قال فيها الشاعر :
من قاس قدك بالغصن الرطيب فقد ........ أضحى القياس به زوراً وبهتانـا
الغصن أحسن ما تلقاه مكتـسـبـاً ........ وأنت أحسن ما تلقـاه إنـسانـا
فنهضت الصبية الثالثة من فوق السرير وخطرت قليلاً إلى أن صارت في وسط القاعة عند أختيها وقالت :
ما وقوفهم ، حطوا عن رأس هذا الحمال المسكين .
فجاءت الدلالة من قدامه والبوابة من خلفه ، وساعدتهما الثالثة وحططن عن الحمال وأفرغن ما في القفص وصفوا كل شيء في محله وأعطين الحمال دينارين وقلن له :
توجه يا حمال .
فنظر إلى البنات وما هن فيه من الحسن والطبائع الحسان فلم ير أحسن منهن ولكن ليس عندهن رجال .
ونظر ما عندهن من الشراب والفواكه والمشمومات وغير ذلك فتعجب غاية العجب ووقف عن الخروج ، فقالت له الصبية :
ما بالك لا تروح ? هل أنت استقللت الأجرة .
والتفتت إلى أختها وقالت لها : أعطيه ديناراً آخر .
فقال الحمال : والله يا سيداتي إن أجرتي نصفان ، وما استقللت الأجرة وإنما اشتغل قلبي وسري بكن وكيف حالكن وأنتن وحدكن وما عندكن رجال ولا أحد يؤانسكن وأنتن تعرفن أن المنارة لا تثبت إلا على أربعة وليس لكن رابع ، وما يكمل حظ النساء إلا بالرجال كما قال الشاعر :
انظر إلى أربع عندي قد اجتمعت ........ جنك وعود وقانون ومـزمـار
أنتن ثلاثة فتفتقرن إلى رابع يكون رجلاً عاقلاً لبيباً حاذقاً وللأسرار كاتماً .
فقلن له : نحن بنات ونخاف أن نودع السر عند من لا يحفظه ، وقد قرأنا في الأخبار شعراً :
صن عن سواك السر لا تودعنه ........ من أودع السر فقد ضـيعـه
فلما سمع الحمال كلامهن قال : وحياتكن أني رجل عاقل أمين قرأت الكتب وطالعت التواريخ ، أظهر الجميل وأخفي القبيح وأعمل بقول الشاعر :
لا يكتم السر إلا كل ذي ثـقة ........ والسر عند خيار الناس مكتوم
السر عندي في بيت له غلـق ........ ضاعت الفاتحة والباب مختوم
فلما سمعت البنات الشعر والنظام وما أبداه من الكلام قلن له :
أنت تعلم أننا غرمنا على هذا المقام جملة من المال فهل معك شيء تجازينا به ، فنحن لا ندعك تجلس عندنا حتى تغرم مبلغنا من المال لأن خاطرك أن تجلس عندنا وتصير نديمنا وتطلع على وجوهنا الصباح الملاح .
فقالت صاحبة الدار : وإذا كانت بغير المال محبة فلا تساوي وزن حبة .
وقالت البوابة إن يكن معك شيء رح بلا شيء .
فقالت الدلالة : يا أختي نكف عنه فوالله ما قصر اليوم معنا ولو كان غيره ما طول روحه علينا ومهما جاء عليه أغرمه عنه .
ففرح الحمال وقال : والله ما استفتحت بالدراهم إلا منكن .
فقلن له اجلس على الرأس والعين وقامت الدلالة وشدت وسطها وصبت القناني وروقت المدام وعملت الخضرة على جانب البحر وأحضرت ما يحتاجون إليه ثم قدمت وجلست هي وأختها وجلس الحمال بينهن وهو يظن أنه في المنام .
ولم يزل الحمال معهن في عناق وتقبيل وهذه تكلمه وهذه تجذبه وهذه بالمشموم تضربه وهو معهن حتى لعبت الخمرة بعقولهم .
فلما تحكم الشراب معهم قامت البوابة وتجردت من ثيابها ثم رمت نفسها في تلك البحيرة ولعبت في الماء وأخذت الماء في فمها وبخت الحمال ثم قامت الثانية وخلعت ثيابها ورمت نفسها في تلك البحيرة وعملت مثل الأولى ثم قامت الثالثة وخلعت ثيابها ونزلت تلك البحيرة وفعلت مثل من قبلها ثم بعد ساعة قام الحمال ونزع ثيابه ونزل البحيرة وهو يسبح في الماء وغسل مثل ما غسلن ، وأخذوا في اللهو سوياً وفعل المعاصي والفحشاء و..

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .



رد مع اقتباس
  #12  
قديم 10-03-2015, 12:25 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة العاشرة

تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت دنيازاد لأختها شهرزاد : يا أختي أتمي لنا حديثك .
قالت : حباً وكرامة

قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أنهن لم يزلن يتضاحكن ويتلاعبن حتى استلقين على ظهورهن ثم عادوا إلى منادمتهم ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل الليل عليهم فقلن للحمال :
توجه وأرنا عرض أكتافك .
فقال الحمال : والله خروج الروح أهون من الخروج من عندكن ، دعونا نصل الليل بالنهار وكل منا يروح في حال سبيله .
فقالت الدلالة : بحياتي عندكن تدعنه ينام عندنا نضحك عليه فإنه خليع ظريف .
فقلن له : تبيت عندنا بشرط أن تدخل تحت الحكم ومهما رأيته لا تسأل عنه ولا عن سببه .
فقال : نعم .
فقلن : قم واقرأ ما على الباب مكتوباً .
فقام إلى الباب فوجد مكتوباً عليه بماء الذهب : لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك .
فقال الحمال : اشهدوا أني لا أتكلم فيما لا يعنيني .
ثم قامت الدلالة وجهزت لهم مأكولاً ثم أوقدوا الشمع والعود وقعدوا في أكل وشرب وإذا هم سمعوا دق الباب فلم يختل نظامهم فقامت واحدة منهن إلى الباب ثم عادت وقالت :
كمل صفاؤنا في هذه الليلة لأني وجدت بالباب ثلاثة أعجام ذقونهم محلوقة وهم عور بالعين الشمال وهذا من أعجب الاتفاق ، وهم ناس غرباء قد حضروا من أرض الروم ولكل واحد منهم شكل وصورة مضحكة ، فإن دخلوا نضحك عليهم .
ولم تزل تتلطف بصاحبتيها حتى قالتا :
لها دعيهم يدخلون واشترطي عليهم أن لا يتكلموا في ما لا يعنيهم فيسمعوا ما لا يرضيهم .
ففرحت وزاحت ثم عادت ومعها الثلاثة العور ذقونهم محلوقة وشواربهم مبرومة ممشوقة وهم صعاليك فسلموا فقام لهم البنات وأقعدوهم فنظر الرجال الثلاثة إلى الحمال فوجدوه سكران فلما عاينوه ظنوا أنه منهم وقالوا :
هو صعلوك مثلنا يؤانسنا .
فلما سمع الحمال هذا الكلام قام وقلب عينيه وقال لهم : اقعدوا بلا فضول أما قرأتم ما على الباب .
فضحك البنات وقلن لبعضهن : إننا نضحك على الصعاليك والحمال .
ثم وضعن الأكل للصعاليك فأكلوا ثم جلسوا يتنادمون والبوابة تسقيهم .
ولما دار الكأس بينهم قال الحمال للصعاليك : يا إخواننا هل معكم حكاية أو نادرة تسلوننا بها .
فدبت فيهم الحرارة وطلبوا آلات اللهو فأحضرت لهم البوابة دف موصلياً وعوداً عراقياً وجنكاً عجمياً فقام الصعاليك واقفين وأخذ واحد منهم الدف ، وأخذ واحد العود ، وأخذ واحد الجنك وضربوا بها وغنت البنات وصار لهم صوت عال . فبينما هم كذلك وإذا بطارق يطرق الباب ، فقامت البوابة لتنظر من بالباب وكان السبب في دق الباب أن في تلك الليلة نزل هارون الرشيد لينظر ويسمع ما يتجدد من الأخبار هو وجعفر وزيره وسياف نقمته ، وكان من عادته أن يتنكر في صفة التجار .
فلما نزل تلك الليلة ومشى في المدينة جاءت طريقهم على تلك الدار فسمعوا آلات الملاهي فقال الوزير جعفر :
هؤلاء قوم قد دخل السكر فيهم ونخشى أن يصيبنا منهم شر .
فقال هارون الرشيد : لابد من دخولنا وأريد أن نتحايل حتى ندخل عليهم .
فقال جعفر : سمعاً وطاعة .
ثم تقدم جعفر وطرق الباب فخرجت البوابة وفتحت الباب ، فقال لها :
يا سيدتي نحن تجار من طبرية ولنا في بغداد عشرة أيام ومعنا تجارة ونحن نازلون في خان التجار وعزم علينا تاجر في هذه الليلة فدخلنا عنده وقدم لنا طعاماً فأكلنا ثم تنادمنا عنده ساعة ، ثم أذن لنا بالانصراف فخرجنا بالليل ونحن غرباء فتهنا عن الخان الذي نحن فيه فنرجو من مكارمكم أن تدخلونا هذه الليلة نبيت عندكم ولكم الثواب .
فنظرت البوابة إليهم فوجدتهم بهيئة التجار وعليهم الوقار فدخلت لصاحبتيها وشاورتهما فقالتا لها : أدخليهم .
فرجعت وفتحت لهم الباب فقالوا : ندخل بإذنك .
قالت : ادخلوا .
فدخل الخليفة وجعفر ومسرور فلما أتتهم البنات قمن لهم وخدمنهم وقلن :
مرحباً وأهلاً وسهلاً بضيوفنا ، ولنا عليكم شرط أن لا تتكلموا فيما لا يعنيكم فتسمعوا ما لا يرضيكم .
قالوا : نعم .
وبعد ذلك جلسوا للشراب والمنادمة فنظر الخليفة إلى الصعاليك الثلاثة فوجدهم عور العين الشمال فتعجب منهم ونظر إلى البنات وما هم فيه من الحسن والجمال فتحير وتعجب ، واستمر في المنادمة والحديث وأتين الخليفة بشراب فقال :
أنا حاج وانعزل عنهم .
فقامت البوابة وقدمت له سفرة مزركشة ووضعت عليها بمطية من الصيني وسكبت فيها ماء الخلاف وأرخت فيه قطعة من الثلج ومزجته بسكر فشكرها الخليفة وقال في نفسه :
لا بد أن أجازيها في غد على فعلها من صنيع الخير .
ثم اشتغلوا بمنادمتهم ، فلما تحكم الشراب قامت صاحبة البيت وخدمتهم ، ثم أخذت بيد الدلالة وقالت :
يا أختي قومي بمقتضى ديننا .
فقالت لها : نعم .
فعند ذلك قامت البوابة وأطلعت الصعاليك خلف الأبواب قدامهن وذلك بعد أن أخلت وسط القاعة ونادين الحمال وقلن له :
ما أقل مودتك ما أنت غريب بل أنت من أهل الدار .
فقام الحمال وشد أوسطه وقال : ما تردن فلن تقف مكانك .
ثم قامت الدلالة وقالت للحمال : ساعدني .
فرأى كلبتين من الكلاب السود في رقبتيهما جنازير فأخذهما الحمال ودخل بهما إلى وسط القاعة فقامت صاحبة المنزل وشمرت عن معصميها وأخذت سوطاً وقالت للحمال :
قوم كلبه منهما .
فجرها في الجنزير وقدمها والكلبة تبكي وتحرك رأسها إلى الصبية فنزلت عليها الصبية بالضرب على رأسها والكلبة تصرخ وما زالت تضربها حتى كلت سواعدها فرمت السوط من يدها ثم ضمت الكلبة إلى صدرها ومسحت دموعها وقبلت رأسها ثم قالت للحمال :
ردها وهات التالية .
فجاء بها وفعلت بها مثل ما فعلت بالأولى .
فعند ذلك اشتعل قلب الخليفة وضاق صدره وغمز جعفر أن يسألها ، فقال له بالإشارة اسكت ، ثم التفتت صاحبة البيت للبوابة وقالت لها :
قومي لقضاء ما عليك .
قالت : نعم .
ثم إن صاحبة البيت صعدت على سرير من المرمر مصفح بالذهب والفضة وقالت للبوابة والدلالة :
ائتيا بما عندكما .
فأما البوابة فإنها صعدت على سرير بجانبها وأما الدلالة فإنها دخلت مخدعاً وأخرجت منه كيساً من الأطلس بأهداب خضر ووقفت قدام الصبية صاحبة المنزل ونفضت الكيس وأخرجت منه عوداً وأصلحت أوتاره وأنشدت هذه الأبيات :
ردوا على جفني النوم الذي سلـبـا ........ وخبروني بعـقـلـي آية ذهـبـا
علمت لما رضيت الحب مـنـزلة ........ إن المنام على جفني قد غصـبـا
قالوا عهدناك من أهل الرشاد فما ........ أغواك قلت اطلبوا من لحظة السببا
إني له عن دمي المسفوك معتـذر ........ أقول حملته في سفكـه تـعـبـا
ألقى بمرآة فكري شمس صورته ........ فعكسها شب في أحشائي اللهبـا
من صاغه الله من ماء الحياة وقد ........ أجرى بقيته في ثغـره شـنـبـا
ماذا ترى في محب ما ذكرت لـه ........ إلا شكى أو بكى أو حن أو أطربا
يرى خيالك في المـاء الـذلال إذا ........ رام الشراب فيروى وهو ما شربا
وأنشدت أيضاً :
سكرت من لحظه لا من مدامته ........ ومال بالنوم عن عيني تمايلـه
فما السلاف سلتني بل سوالفـه ........ وما الشمل شلتني بل شمائلـه
فلما سمعت الصبية ذلك ، قالت :
طيبك الله .
ثم شقت ثيابها ووقعت على الأرض مغشياً عليها ، فلما انكشف جسدها رأى الخليفة أثر ضرب المقارع والسياط فتعجب من ذلك غاية العجب فقامت البوابة ورشت الماء على وجهها وأتت إليها بحلة وألبستها إياها ، فقال الخليفة لجعفر :
أما تنظر إلى هذه المرأة وما عليها من أثر الضرب ، فأنا لا أقدر أن أسكت على هذا وما أستريح إلا إن وقفت على حقيقة خبر هذه الصبية وحقيقة خبر هاتين الكلبتين .
فقال جعفر : يا مولانا قد شرطوا علينا شرطاً وهو أن لا نتكلم فيما لا يعنينا فنسمع ما لا يرضينا .
ثم قامت الدلالة فأخذت العود وأسندته إلى نهدها ، وغمزته بأناملها وأنشدت تقول :
إن شكونا الهوى فمـاذا تـقـول ........ أو تلفنا شوقاً فماذا الـسـبـيل
أو بعثنا رسلاً نتـرجـم عـنـا ........ ما يؤدي شكوى المحب رسـول
أو صبرنا فما لنـا مـن بـقـاء ........ بعد فقد الأحـبـاب إلا قـلـيل
ليس إلا تـأسـفـاً ثـم حـزنـاً ........ ودموعاً على الخـدود تـسـيل
أيها الغائبون عن لمـح عـينـي ........ وعم في الفؤاد منـي حـلـول
هل حفظتم لدى الهوى عهد صب ........ ليس عنه مدى الزمـان يحـول
أم نسيتم على التبـاعـد صـبا ........ شفه فبكم الضنى والـنـحـول
وإذا الحشر ضمنـا أتـمـنـى ........ من لدن وبنا حسـابـاً يطـول
فلما سمعت المرأة الثانية شعر الدلالة شقت ثيابها كما فعلت الأولى ، وصرخت ثم ألقت نفسها على الأرض مغشياً عليها ، فقامت الدلالة وألبستها حلة ثانية بعد أن رشت الماء على وجهها ثم قامت المرأة الثالثة وجلست على سرير وقالت للدلالة :
غني لي لا في ديني فما بقي غير هذا الصوت .
فأصلحت الدلالة العود وأنشدت هذه الأبيات :
فإلى متى هذا الصدود وذا الجفـا ........ فلقد جوى من أدمعي ما قد كفى
كم قد أطلت الهجر لي معتـمـداً ........ إن كان قصدك حاسدي فقد اشتفى
لو أنصف الدهر الخؤون لعاشـق ........ ما كان يوم العواذل منـصـفـا
فلمن أبوح بصبوتي يا قـاتـلـي ........ يا خيبة الشاكي إذا فقـد الـوفـا
ويزيد وجدي في هواك تلـهـفـاً ........ فمتى وعدت ولا رأيتك مخلـفـا
يا مسلمون خذوا بـنـار مـتـيم ........ ألف الشهادة لديه طرف ما غفـا
أيحل في شرع الغرام تـذلـلـي ........ ويكون غيري بالوصال مشرفـا
ولقد كلفت بحبـكـم مـتـلـذذاً ........ وغدا عذولي في الهوى متكلفـا
فلما سمعت المرأة الثالثة قصيدتها صرخت وشقت ثيابها وألقت نفسها على الأرض مغشياً عليها فلما انكشف جسدها ظهر فيه ضرب المقارع ، مثل من قبلها فقال الصعاليك :
ليتنا ما دخلنا هذه الدار وكنا بتنا على الكيمان ، فقد تكدر مبيتنا هنا بشيء يقطع الصلب .
فالتفت الخليفة إليهم وقال لهم : لم ذلك .
قالوا : قد اشتغل سرنا بهذا الأمر .
فقال الخليفة : أما أنتم من هذا البيت .
قالوا : لا ولا ظننا هذا الموضع إلا للرجل الذي عندكم .
فقال الحمال : والله ما رأيت هذا الموضع إلا هذه الليلة وليتني بت على الكيمان ولم أبت فيه .
فقال الجميع : نحن سبعة رجال وهن ثلاث نسوة وليس لهن رابعة فنسألهن عن حالهن فإن لم يجبننا طوعاً أجبننا كرهاً واتفق الجميع على ذلك .
فقال جعفر : ما هذا رأي سديد دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطن علينا ، شرطاً فنوفي به ولم يبق من الليل إلا القليل وكل منا يمضي إلى حال سبيله .
ثم إنه غمز الخليفة وقال : ما بقي غير ساعة ، وفي غد تحضرهن بين يديك ، فتسألهن عن قصتهن .
فأبى الخليفة وقال : لم يبق لي صبر عن خبرهن وقد كثر بينهن القيل والقال
ثم قالوا : ومن يسألهن .
فقال بعضهم : الحمال .
ثم قال لهم النساء : يا جماعة في أي شيء تتكلمون .
فقال الحمال لصاحبة البيت : يا سيدتي سألتك بالله وأقسم عليك به أن تخبرينا عن حال الكلبتين ، وأي سبب تعاقبيهما ثم تعودين تبكين ، وتقبليهما وأن تخبرينا عن سبب ضرب أختك بالمقارع وهذا سؤالنا والسلام .
فقالت صاحبة المكان للجماعة : ما يقوله عنكم .
فقال الجميع : نعم .
إلا جعفر فإنه سكت .
فلما سمعت الصبية كلامهم قالت : والله لقد آذيتمونا يا ضيوفنا ، الأذية البالغة ، وتقدم لنا أننا شرطنا عليكم أن من تكلم فيما لا يعنيه ، سمع ما لا يرضيه أما كفا أننا أدخلناكم منزلنا وأطعمناكم زادنا ولكن لا ذنب لكم وإنما الذنب لمن أوصلكم إلينا .
ثم شمرت عن معصمها وضربت الأرض ثلاث ضربات وقالت عجلوا .
وإذا بباب خزانة قد فتح وخرج منها سبعة عبيد بأيديهم سيوف مسلولة وقالت :
كتفوا هؤلاء الذين كثر كلامهم واربطوا بعضهم ببعض .
ففعلوا وقالوا : أيتها المخدرة ائذني لنا في ضرب رقابهم .
فقالت : أمهلوهم ساعة حتى أسألهم عن حالهم قبل ضرب رقابهم .
فقال الحمال : بالله يا سيدتي لا تقتليني بذنب الغير فإن الجميع أخطأوا ، ودخلوا في الذنب ، إلا أنا والله لقد كانت ليلتنا طيبة لو سلمنا من هؤلاء الصعاليك الذين لو دخلوا مدينة عامرة لأخربوها ، ثم أنشد يقول :
ما أحسن الغفران من قادر ........ لا سيما عن غير ذي ناصر
بحرمة الود الذي بـينـنـا ........ لا تقتلي الأول بـالآخـر
فلما فرغ الحمال من كلامه ضحكت الصبية .

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .



رد مع اقتباس
  #13  
قديم 10-03-2015, 12:26 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة الحادية عشرة

تكمله حكاية الحمال مع البنات

قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية لما ضحكت بعد غيظها ، أقبلت على الجماعة وقالت :
أخبروني بخبركم فما بقي من عمركم إلا ساعة ولولا أنتم أعزاء .
فقال الخليفة : ويلك يا جعفر عرفها بنا وإلا تقتلنا .
فقال جعفر : من بعض ما نستحق .
فقال له الخليفة : لا ينبغي الهزل في وقت الجد كل منهم له وقت .
ثم أن الصبية أقبلت على الصعاليك ، وقالت لهم : هل أنتم أخوة ؟
فقالوا : لا والله ما نحن إلا فقراء الحجام .
فقالت لواحد منهم : هل أنت ولدت أعور ؟
فقال : لا والله وإنما جرى لي أمر غريب حيت تلفت عيني ولهذا الأمر حكاية لو كتبت بالإبر على أفاق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر .
فسألت الثاني والثالث فقالا لها مثل الأول ثم قالوا : أن كل منا من بلد وأن حديثنا عجيب وأمرنا غريب .
فالتفتت الصبية لهم ، وقالت : كل واحد منكم يحكي حكايته وما سبب مجيئه إلى مكاننا ثم يملس على رأسه ويروح إلى حال سبيله .
فأول من تقدم الحمال ، فقال : يا سيدتي أنا رجل حمال حملتني هذه الدلالة وأتت بي إلى هنا وجرى لي معكم ما جرى وهذا حديثي والسلام .
فقالت له : ملس على رأسك وروح .
فقال : والله ما أروح حتى أسمع حديث رفقائي .
فتقدم الصعلوك الأول وقال لها : يا سيدتي ، إن سبب حلق ذقني وتلف عيني أن والدي كان ملكاً وله أخ وكان أخوه ملكاً على مدينة أخرى واتفق أن أمي ولدتني في اليوم الذي ولد فيه ابن عمي ، ثم مضت سنون وأعوام ، وأيام حتى كبرنا وكنت أزور عمي في بعض السنين وأقعد عنده أشهر عديدة فزرته مرة فأكرمني غاية الإكرام وذبح لي الأغنام وروق لي المدام وجلسنا للشراب فلما تحكم الشراب فينا قال ابن عمي :
يا ابن عمي إن لي عندك حاجة مهمة .
فاستوثق مني بالإيمان العظام ونهض من وقته وساعته وغاب قليلاً ، ثم عاد وخلفه امرأة مزينة مطيبة وعليها من الحلل ما يساوي مبلغاً عظيماً .
فالتفت إلي والمرأة خلفه ، وقال : خذ هذه المرأة واسبقني على الجبانة الفلانية .
ووصفها لي فعرفتها وقال : ادخل بها التربة وانتظرني هناك .
فلم يمكني المخالفة ولم أقدر على رد سؤاله لأجل الذي حلفته فأخذت المرأة وسرت إلى أن دخلت التربة أنا وإياها فلما استقر بنا الجلوس جاء ابن عمي ومعه طاسة فيها ماء وكيس فيه جبس وقدوم ثم إنه أخذ القدوم وجاء إلى قبر في وسط التربة ففكه ونقض أحجاره إلى ناحية التربة ، ثم حفر بالقدوم في الأرض ، حتى كشف عن طابق قدر الباب الصغير فبان من تحت الطابق سلم معقود .
لم ألتفت إلى المرأة بالإشارة وقال لها : دونك وما تختارين به .
فنزلت المرأة على ذلك السلم ، ثم التفت إلي وقال : يا ابن عمي تمم المعروف إذا نزلت أنا في ذلك الموضع فرد الطابق ورد عليه التراب كما كان وهذا تمام المعروف وهذا الجبس الذي في الكيس وهذا الماء الذي في الطاسة أعجن منه الجبس وجبس القبر في دائر الأحجار كما كان أول حتى لا يعرفه أحد ولا يقول هذا فتح جديد وتطيينه عتق لأن لي سنة كاملة ، وأنا أعمل فيه ، وما يعلم به إلا الله وهذه حاجتي عندك .
ثم قال لي : لا أوحش الله منك ، يا ابن عمي .
ثم نزل على السلم .
فلما غاب عني قمت ورددت الطابق وفعلت ما أمرني به حتى صار القبر كما كان ثم رجعت إلى قصر عمي ، وكان عمي في الصيد والقنص فنمت تلك الليلة فلما أصبح الصباح تذكرت الليلة الماضية وما جرى فيها بيني وبين ابن عمي وندمت على ما فعلت معه حيث لا ينفع الندم .

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .


رد مع اقتباس
  #14  
قديم 10-03-2015, 12:27 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة الثانية عشرة

تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية :
ثم خرجت إلى المقابر وفتشت على التربة فلم أعرفها ولم أزل أفتش حتى أقبل الليل ولم أهتد إليها فرجعت إلى القصر لم آكل ولم أشرب وقد اشتغل خاطري بابن عمي من حيث لا أعلم له حالاً فاغتممت غماً شديداً وبت ليلتي مغموماً ، إلى الصباح فجئت ثانياً إلى الجبانة وأنا أتفكر فيما فعله ابن عمي ، وندمت على سماعي منه وقد فتشت في الترب جميعاً فلم أعرف تلك التربة ، ولازمت التفتيش سبعة أيام فلم أعرف له طريقاً .
فزاد بي الوسواس حتى كدت أن أجن فلم أجد فرجاً دون أن سافرت ، ورجعت عليه ، فساعة وصولي إلى مدينة أبي نهض إلى جماعة من باب المدينة وكتفوني فتعجبت كل العجب إني ابن سلطان المدينة وهم خدم أبي وغلماني ، ولحقني منهم خوف زائد ، فقلت في نفسي يا ترى أجرى على والدي وصرت أسأل الذين كنفوني عن سبب ذلك فلم يردوا علي جواباً .
ثم بعد حين قال لي بعضهم وكان خادماً عندي ، إن أباك قد غدر به الزمان وخانته العساكر وقتله الوزير ونحن نترقب وقوعك ، فأخذوني وأنا غائب عن الدنيا بسبب هذه الأخبار التي سمعتها عن أبي فلما تمثلت بين يدي الوزير الذي قتل أبي وكان بيني وبينه عداوة قديمة وسبب تلك العداوة أني كنت مولعاً بضرب البندقية فاتفق أني كنت واقفاً يوماً من الأيام على سطح قصر وإذا بطائر نزل على سطح قصر الوزير وكان واقفاً هناك ، فأردت أن أضرب الطير وإذا بالبندقية أخطأت عين الوزير ، فأتلفتها بالقضاء والقدر كما قال الشاعر :
دع الأقدار تفعل ما تـشـاء ........ وطب نفساً بما فعل القضاء
ولا تفرح ولا تحزن بشيء ........ فإن الشيء ليس له بـقـاء
وكما قال الآخر :
مشينا خطا كتبـت عـلـينـا ........ ومن كتب عليه خطاً مشاهـا
ومن كانت منـيتـه بـأرض ........ فليس يموت في أرض سواها
ثم قال ذلك الصعلوك : فلما أتلفت عين الوزير لم يقدر أن يتكلم لأن والدي كان ملك المدينة فهذا سبب العداوة التي بيني وبينه فلما وقفت قدامه ، وأنا مكتف أمر فضرب عنقي فقلت :
أتقتلني بغير ذنب ؟
فقال : أي ذنب أعظم من هذا ؟
وأشار إلى عينه المتلفة ، فقلت له : فعلت ذلك خطأ .
فقال : إن كنت فعلته خطأ فأنا أفعله بك عمداً .
ثم قال : قدموه بين يدي .
فقدموني بين يديه ، فمد إصبعه في عيني الشمال فأتلفها فصرت من ذلك الوقت أعور كما تروني ، ثم كتفني ووضعني في صندوق وقال للسياف :
تسلم هذا وأشهر حسامك ، وخذه واذهب به إلى خارج المدينة واقتله ودعه للوحوش تأكله .
فذهب بي السياف وصار حتى خرج من المدينة ، وأخرجني من الصندوق وأنا مكتوف اليدين مقيد الرجلين وأراد أن يغمي عيني ويقتلني فبكيت وأنشدت هذه الأبيات :
جعلتكموا درعاً حصيناً لتمنعوا ........ سهام العدا عني فكنتم نصالها
وكنت أرجي عند كل مـلـمة ........ تخص يميني أن تكون شمالها
دعوا قصة العذال عني بمعزل ........ وخلوا العدا ترمي إلي نبالهـا
إذا لم تقوا نفسي مكايدة العـدا ........ فكونوا سكوتاً لا عليها ولا لها
وأنشدت أيضاً هذه الأبيات :
وإخوان اتخذتـهـم دروعـاً ........ فكانوها ولكن لـلأعـادي
رحلتهم سهامـاً صـائبـات ........ فكانوا ولكن فـي فـؤادي
وقالوا قد سعينا كل سـعـي ........ لقد صدقوا ولكن في فسادي
فلما سمع السياف شعري وكان سياف أبي ولي عليه إحسان ، قال :
يا سيدي كيف أفعل وأنا عبد مأمور .
ثم قال لي : فر بعمرك ولا تعد إلى هذه المدينة فتهلك وتهلكني معك كما قال الشاعر :
ونفسك فر بها إن خفت ضيماً ........ وخل الدار تنعي من بناهـا
فإنك واحد أرضـاً بـأرض ........ ونفسك لم تجد نفساً سواهـا
عجبت لمن يعيش بـدار ذل ........ وأرض الله واسعة فـلاهـا
وما غلظت رقاب الأسد حتى ........ بأنفسها تولت ما عـنـاهـا
فلما قال ذلك قبلت يديه وما صدقت حتى فررت وهان علي تلف عيني بنجاتي من القتل ، وسافرت حتى وصلت إلى مدينة عمي فدخلت عليه وأعلمته بما جرى لوالدي ، وبما جرى لي من تلف عيني فبكى بكاء شديداً وقال :
لقد زدتني هماً على همي وغماً على غمي ، فإن ابن عمك قد فقد منذ أيام ولم أعلم بما جرى له ولم يخبرني أحد بخبره .
وبكى حتى أغمي عليه فلما استفاق قال :
يا ولدي قد حزنت على ابن عمك حزناً شديداً وأنت زدتني بما حصل لك ولأبيك ، غماً على غمي ، ولكن يا ولدي بعينك ولا بروحك .
ثم إنه لم يمكني السكوت عن ابن عمي الذي هو ولده فأعلمته بالذي جرى له كله ففرح عمي بما قلته له فرحاً شديداً عند سماع خبر ابنه ، وقال :
أرني التربة .
فقلت : والله يا عمي لم أعرف مكانها لأني رجعت بعد ذلك مرات لأفتش عليها فلم أعرف مكانها .
ثم ذهبت أنا وعمي إلى الجبانة ، ونظرت يميناً وشمالاً فعرفتها ففرحت أنا وعمي فرحاً شديداً ودخلت أنا وإياه التربة وأزحنا التراب ورفعنا الطابق ونزلت أنا وعمي مقدار خمسين درجة ، فلما وصلنا إلى آخر السلم وإذا بدخان طلع علينا فغشي أبصارنا ، فقال عمي الكلمة التي لا يخاف قائلها وهي :
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثم مشينا وإذا نحن بقاعة ممتلئة دقيقاً وحبوباً ومأكولات وغير ذلك ورأينا في وسط القاعة ستارة مسبولة على سرير فنظر عمي إلى السرير فوجد ابنه هو والمرأة التي قد نزلت معه صار فحماً أسود وهما متعانقان كأنهما ألقيا في جب نار ، فلما نظر عمي بصق في وجهه وقال تستحق يا خبيث فهذا عذاب الدنيا وبقي عذاب الآخرة وهو أشد وأبقى .

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .


رد مع اقتباس
  #15  
قديم 10-03-2015, 12:28 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة الثالثة عشرة

تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية والجماعة والخليفة وجعفر يستمعون الكلام ، ثم أن عمي ضرب ولده بالنعال وهو راقد كالفحم الأسود فتعجبت من ضربه وحزنت على ابن عمي حيث صار هو والصبية فحماً أسود ثم قلت :
بالله يا عمي خفف الهم عن قلبك ، فقد اشتغل سري وخاطري بما قد جرى لولدك وكيف صار هو والصبية فحماً أسود ما يكفيك ما هو فيه حتى تضربه بالنعال .
فقال : يا ابن أخي إن ولدي هذا كان من صغره مولعاً بحب أخته وكنت أنهاه عنها وأقول في نفسي إنهما صغيران فلما كبر أوقع بينهما القبيح وسمعت بذلك ولم أصدق ولكن زجرته زجراً بليغاً وقلت له أحذر من هذه الفعال القبيحة التي لم يفعلها أحد قبلك ولا يفعلها أحد بعدك وإلا نبقى بين الملوك بالعار والنقصان إلى الممات وتشيع أخبارنا مع الركبان وإياك أن تصدر منك هذه الفعال فإني أسخط عليك وأقتلك ثم حجبته عنها وحجبتها عنه وكانت الخبيثة تحبه محبة عظيمة وقد تمكن الشيطان منها .
فلما رآني حجبته فعل هذا المكان الذي تحت الأرض الخفية . ونقل فيه المأكول كما تراه واستغفلني لما خرجت إلى الصيد وأتى إلى هذا المكان فغار عليه وعليها الحق سبحانه وتعالى وأحرقهما ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
ثم بكى وبكيت معه وقال لي : أنت ولدي عوضاً عنه .
ثم أني تفكرت ساعة في الدنيا وحوادثها من قتل الوزير لوالدي وأخذ مكانه وتلف عيني ، وما جرى لابن عمي من الحوادث الغريبة .
فبكيت ثم أننا صعدنا ورددنا الطابق والتراب ، وعملنا القبر كما كان ، ثم رجعنا إلى منزلنا فلم يستقر بيننا جلوس حتى سمعنا دق طبول وبوقات ورمحت الأبطال وامتلأت الدنيا بالعجاج والغبار من حوافر الخيل فحارت عقولنا ولم نعرف الخبر فسأل الملك عن الخبر فقيل إن وزير أخيك قتله وجمع العسكر والجنود وجاء بعسكره ليهجموا على المدينة وأهل المدينة لم يكن لهم طاقة بهم فسلموا إليه فقلت في نفسي متى وقعت أنا في يده قتلني .
وتراكمت الأحزان وتذكرت الحوادث التي حدثت لأبي وأمي ولم أعرف كيف العمل فإن ظهرت عرفني أهل المدينة ، وعسكر أبي فيسعون في قتلي وهلاكي فلم أجد شيئاً أنجو به إلا حلق ذقني فحلقتها وغيرت ثيابي وخرجت من المدينة وقصدت هذه المدينة والسلام لعل أحداً يوصلني إلى أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين حتى أحكي له قصتي ، وما جرى لي فوصلت إلى هذه المدينة في هذه الليلة ، فوقفت حائراً ولم أدر أين أمضي وإذا بهذا الصعلوك واقف .
فسلمت عليه وقلت له : أنا غريب أيضاً ، فبينما نحن كذلك وإذا برفيقنا هذا الثالث جاءنا وسلم علينا ، وقال : أنا غريب ، فقلنا له : ونحن غريبان فمشينا وقد هجم علينا الظلام فساقنا القدر إليكم ، وهذا سبب حلق ذقني وتلف عيني .
فقالت الصبية : ملس على رأسك وروح .
فقال لها : لا أروح حتى أسمع خبر غيري فتعجبوا من حديثه .
فقال الخليفة لجعفر : والله أنا ما رأيت مثل الذي جرى لهذا الصعلوك .
ثم تقدم الصعلوك الثاني وقبل الأرض وقال :
يا سيدتي أنا ما ولدت أعور ، وإنما لي حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آفاق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر ، فأنا ملك ابن ملك وقرأت القرآن على سبع روايات وقرأت الكتب على أربابها من مشايخ العلم وقرأت علم النجوم وكلام الشعراء واجتهدت في سائر العلوم حتى فقت أهل زماني فعظم حظي عند سائر الكتبة وشاع ذكري في سائر الأقاليم والبلدان وشاع خبري عند سائر الملوك .
فسمع بي ملك الهند فأرسل يطلبني من أبي وأرسل إليه هدايا وتحفاً تصلح للملوك فجهزني أبي في ست مراكب وسرنا في البحر مدة شهر كامل حتى وصلنا إلى البر وأخرجنا حبالاً كانت معنا في المركب وحملنا عشرة جمال هدايا ومشينا قليلاً وإذا بغبار قد علا وثار حتى سد الأقطار واستمر ساعة من النهار ثم انكشف قبان من تحته ستون فارساً وهم ليوث وعوانس فتأملناهم وإذا هم عرب قطاع طريق فلما رأونا ونحن نفر قليل ومعنا عشرة أجمال هدايا لملك الهند رمحوا علينا وشرعوا الرماح بين أيديهم نحونا .
فأشرنا إليهم بالأصابع وقلنا لهم : نحن رسل إلى ملك الهند المعظم فلا تؤذونا .
فقالوا : نحن لسنا في أرضه ولا تحت حكمه .
ثم إنهم قتلوا بعض الغلمان وهرب الباقون وهربت أنا بعد أن جرحت جرحاً بليغاً واشتغلت عنا العرب بالمال والهدايا التي كانت معنا فصرت لا أدري أين أذهب ، وكنت عزيزاً فصرت ذليلاً وسرت إلى أن أتيت رأس الجبل فدخلت مغارة حتى طلع النهار ثم سرت منها حتى وصلت إلى مدينة عامرة بالخير وقد ولى عنها الشتاء ببرده وأقبل عليها الربيع بورده .
ففرحت بوصولي إليها وقد تعبت من المشي وعلاني الهم والاصفرار فتغيرت حالتي ولا أدري أين أسلك فملت إلى خياط في دكان وسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي وباسطني عن سبب غربتي فأخبرته بما جرى لي من أوله إلى آخره ، فاغتم لأجلي وقال :
يا فتى لا تظهر ما عندك فإني أخاف عليك من ملك المدينة لأنه أكبر أعداء أبيك وله عنده ثأر .
ثم أحضر لي مأكولاً ومشروباً فأكلت وأكل معي وتحادثت معه في الليل وأخلى لي محلاً في جانب حانوته وأتاني بما أحتاج إليه من فراش وغطاء ، فأقمت عنده ثلاثة أيام ، ثم قال لي :
أما تعرف صنعة تكسب بها ؟
فقلت له : إني فقيه طالب علم كاتب حاسب .
فقال : إن صنعتك في بلادنا كاسدة وليس في مدينتنا من يعرف علماً ولا كتابة غير المال .
فقلت : والله لا أدري شيئاً غير الذي ذكرته لك .
فقال : شد وسطك وخذ فأساً وحبلاً واحتطب في البرية حطباً تتقوت به إلى أن يفرج الله عنك ولا تعرف أحداً بنفسك فيقتلوك .
ثم اشترى لي فأساً وحبلاً وأرسلني مع بعض الحطابين وأوصاهم علي ، فخرجت معهم واحتطبت فأتيت بحمل على رأسي فبعته بنصف دينار فأكلت ببعضه وأبقيت بعضه ، ودمت على هذا الحال مدة سنة .
ثم بعد السنة ذهبت يوماً على عادتي إلى البرية لأحتطب منها ودخلتها ، فوجدت فيها خميلة أشجار فيها حطب كثير فدخلت الخميلة ، وأتيت شجرة وحفرت حولها وأزلت التراب عن جدارها فاصطكت الفأس في حلقة نحاس فنظفت التراب وإذا هي في طابق من خشب فكشفته فبان تحت سلم فنزلت إلى أسفل السلم فرأيت باباً فدخلته فرأيت قصراً محكم البنيان فوجدت فيه صبية كالدرة السنية تنفي إلى القلب كل هم وغم وبلية .
فلما نظرت إليها سجدت لخالقها لما أبدع فيها من الحسن والجمال فنظرت علي وقالت لي :
أنت أنسي أم جني ؟
فقلت لها : إنسي .
فقالت : ومن أوصلك إلى هذا المكان الذي لي فيه خمسة وعشرون سنة ، ما رأيت فيه إنسياً أبداً .
فلما سمعت كلامها وجدت له عذوبة وقلت لها : يا سيدتي أوصلني الله إلى منزلك ولعله يزيل همي وغمي وحكيت لها ما جرى لي من الأول إلى الآخر .
فصعب عليها حالي وبكت وقالت : أنا الأخرى أعلمك بقصتي فاعلم أني بنت ملك أقصى الهند صاحب جزيرة الآبنوس وكان قد زوجني بابن عمي فاختطفني ليلة زفافي عفريت اسمه جرجريس بن رجوس بن إبليس فطار بي إلى هذا المكان ونقل فيه كل ما أحتاج إليه من الحلى والحلل والقماش والمتاع والطعام والشراب ، في كل عشرة أيام يجيئني مرة فيبيت هنا ليلة وعاهدني إذا عرضت لي حاجة ليلاً أو نهاراً أن ألمس بيدي هذين السطرين المكتوبين على القبة فما ارفع يدي حتى أراه عندي ومنذ كان عندي له اليوم أربعة أيام وبقي له ستة أيام حتى يأتي فهل لك أن تقيم عندي خمسة أيام ، ثم تنصرف قبل مجيئه بيوم .
فقلت : نعم .
ففرحت ثم نهضت على أقدامها وأخذت بيدي وأدخلتني من باب مقنطر وانتهت بي إلى حمام لطيف ظريف فلما رأيته خلعت ثيابي وخلعت ثيابها ، ودخلت فجلست على مرتبة وأجلستني معها وأتت بسكر ممسك وسقتني ، ثم قدمت لي مأكولاً وتحادثنا ثم قالت لي :
نم واسترح فإنك تعبان .
فنمت يا سيدتي وقد نسيت ما جرى لي ، وشكرتها فلما استيقظت وجدتها تكبس رجلي فدعوت لها وجلسنا نتحادث ساعة ، ثم قالت :
والله إني كنت ضيقة الصدر وأنا تحت الأرض وحدي ولم أجد من يحدثني خمسة وعشرين سنة فالحمد لله الذي أرسلك إلي ثم أنشدت :
لو علمنا مجيئكم لفـرشـنـا ........ مهجة القلب أو سواد العيون
وفرشنا خدودنا والتـقـينـا ........ لكون المسير فوق الجفـون
فلما سمعت شعرها شكرتها وقد تمكنت محبتها في قلبي ، وذهب عني همي وغمي ، ثم جلسنا في منادمة إلى الليل ، فبت معها ليلة ما رأيت مثلها في عمري وأصبحنا مسرورين فقلت لها :
هل أطلعك من تحت الأرض وأريحك من هذا الجني .
فضحكت وقالت : اقنع واسكت ففي كل عشرة أيام يوم للعفريت وتسعة لك .
فقلت وقد غلب علي الغرام : فأنا في هذه أكسر هذه القبة التي عليها النقش المكتوب لعل العفريت يجيء حتى أقتله فإني موعود بقتل العفاريت فلما سمعت كلامي أنشدت :
يا طالباً للفراق مـهـلاً ........ بحيلة قد كفى اشتـياق
اصبر فطبع الزمان غدر ........ وآخر الصحبة الفـراق
فلما سمعت شعرها لم ألتفت لكلامها بل رفست القبة رفساً قوياً .


وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .



رد مع اقتباس
  #16  
قديم 10-03-2015, 12:29 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة الرابعة عشرة


تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك الثاني قال للصبية :
يا سيدتي لما رفست القبة رفساً قويا ً، قالت لي المرأة :
أن العفريت قد وصل إلينا أما حذرتك من هذا ولله لقد آذيتني ولكن انج بنفسك واطلع من المكان الذي جئت منه .
فمن شدة خوفي نسيت نعلي وفأسي ، فلما طلعت درجتين التفت لأنظرهما فرأيت الأرض قد انشقت وطلع منها عفريت ومنظر شنيع ، وقال :
ما هذه الزعجة التي أرعشتني بها فما مصيبتك .
فقالت : ما أصابني شيء غير أن صدري ضاق ، فأردت أن أشرب شراباً يشرح صدري فنهضت لأقضي أشغالي فوقعت على القبة .
فقال لها العفريت : يا فاجرة .
ونظر في القصر يميناً وشمالاً فرأى النعل والفأس فقال لها : ما هذه إلا متاع الإنس من جاء إليك .
فقالت : ما نظرتهما إلا في هذه الساعة ولعلهما تعلقا معك .
فقال العفريت : هذا كلام محال لا ينطلي علي يا عاهرة .
ثم أنه أعراها ، وصلبها بين أربعة أوتاد وجعل يعاقبها ويقررها بما كان فلم يهن علي أن أسمع بكاءها فطلعت من السلم مذعوراً من الخوف فلما وصلت إلى أعلى الموضع رددت الطابق كما كان وسترته بالتراب وندمت على ما فعلت غاية الندم وتذكرت الصبية وحسنها وكيف يعاقبها هذا الملعون وهي لها معه خمسة وعشرون سنة وما عاقبها إلا بسببي وتذكرت أبي ومملكته وكيف صرت حطاباً ، فقلت هذا البيت :
إذا ما أتاك الدهر يوماً بنـكـبة ........ فيوم ترى يسراً ويوم ترى عسرا
ثم مشيت إلى أن أتيت رفيقي الخياط فلقيته من أجلي على مقالي النار وهو لي في الانتظار فقال لي :
بت البارحة وقلبي عندك وخفت عليك من وحش أو غيره فالحمد لله على سلامتك .
فشكرته على شفقته علي ودخلت خلوتي ، وجعلت أتفكر فيما جرى لي وألوم نفسي على رفسي هذه القبة وإذا بصديقي الخياط دخل علي وقال لي :
في الدكان شخص أعجمي يطلبك ومعه فأسك ونعلك قد جاء بهما إلى الخياطين وقال لهم أني خرجت وقت آذان المؤذن ، لأجل صلاة الفجر فعثرت بهما ولم أعلم لمن هما فدلوني على صاحبها ، فدله الخياطون عليك وها هو قاعد في دكاني فاخرج إليه واشكره وخذ فأسك ونعلك .
فلما سمعت هكذا الكلام اصفر لوني وتغير حالي فبينما أنا كذلك وإذا بأرض محلي قد انشقت وطلع منها الأعجمي وإذا هو العفريت وقد كان عاقب الصبية غاية العقاب فلم تقر له بشيء فأخذ الفأس والنعل وقال لها :
إن كنت جرجريس من ذرية إبليس فأنا أجيء بصاحب هذا الفأس والنعل .
ثم جاء بهذه الحيلة إلى الخياطين ودخل علي ولم يمهلني بل اختطفني وطار وعلا بي ونزل بي وغاص في الأرض وأنا لا أعلم بنفسي ، ثم طلع بي القصر الذي كنت فيه فرأيت الصبية عارية والدم يسيل من جوانبها فقطرت عيناي بالدموع .
فأخذها العفريت وقال لها : يا عاهرة هذا عشيقك .
فنظرت إلي وقالت له : لا أعرفه ولا رأيته إلا في هذه الساعة .
فقال لها العفريت : أهذه العقوبة ولم تقري .
فقالت ما رأيته عمري وما يحل من الله أن أكذب عليه .
فقال لها العفريت : إن كنت لا تعرفينه ، فخذي هذا السيف واضربي عنقه .
فأخذت السيف وجاءتني ووقفت على رأسي فأشرت لها بحاجبي فنهضت وغمرتني وقالت :
أنت الذي فعلت هذا كله .
فأشرت لها أن هذا وقت العفو ولسان حالي يقول :
يترجم طرفي عن لساني لتعلمـوا ........ ويبدو لكم ما كان في صدري يكتم
ولما التقينا والـدمـوع سـواجـم ........ خرست وطرفي بالهوى يتكـلـم
تشير لنا عما تقول بـطـرفـهـا ........ وأرمي إليها بالبنان فـتـفـهـم
حواجبنا تقضي الحوائج بـينـنـا ........ فنحن سكوت والهوى يتـكـلـم
فلما فهمت الصبية إشارتي رمت السيف من يدها ، فناولني العفريت السيف وقال لي :
اضرب عنقها وأنا أطلقك ولا أنكد عليك .
فقلت : نعم .
وأخذت السيف وتقدمت نشاط ورفعت يدي ، فقالت لي بحاجبها :
أنا ما قصرت في حقك .
فهملت عيناي بالدموع ورميت السيف من يدي ، وقلت :
أيها العفريت الشديد والبطل الصنديد ، إذا كانت امرأة ناقصة عقل ودين لم تستحل ضرب عنقي فكيف يحل لي أن أضرب عنقها ولم أرها عمري ، فلا أفعل ذلك أبداً ولو سقيت من الموت كأس الردى .
فقال العفريت : أنتما بينكما مودة .
أخذ السيف وضرب يد الصبية فقطعها ، ثم ضرب الثانية فقطعها ثم قطع رجلها اليمنى ثم قطع رجلها اليسرى حتى قطع أرباعها بأربع ضربات وأنا أنظر بعيني فأيقنت بالموت ثم أشارت إلي بعينيها فرآها العفريت فقال لها :
وقد زنيت بعينك .
ثم ضربها فقطع رأسها ، والتفت إلي وقال :
يا آنسي نحن في شرعنا إذا زنت الزوجة يحل لنا قتلها ، وهذه الصبية اختطفتها ليلة عرسها ، وهي بنت اثنتي عشرة سنة ولم تعرف أحداً غيري وكنت أجيئها في كل عشرة أيام ليلة واحدة في زي رجل أعجمي . فلما تحققت أنها خانتني فقتلتها وأما أنت فلم أتحقق أنك خنتني فيها ، ولكن لا بد أني إما اخليك في عافية فتمن علي أي ضرر .
فرحت يا سيدتي غاية الفرح وطمعت في العفريت وقلت له : وما أتمناه عليك .
قال : تمن علي أي صورة اسحرك فيها إما صورة كلب وإما صورة حمار وإما صورة قرد .
فقلت له وقد طمعت أنه يعفو عني : والله إن عفوت عني يعفو الله عنك ، بعفوك عن رجل مسلم لم يؤذيك .
وتضرعت إليه غاية التضرع ، وبقيت بين يديه ، وقلت له : أنا رجل مظلوم .
فقال لي : لا تطل علي الكلام أما القتل فلا تخف منه وأما العفو عنك فلا تطمع فيه وأما سحرك فلا بد منه .
ثم شق الأرض وطار بي إلى الجو حتى نظرت إلى الدنيا حتى كأنها قصعة ماء ، ثم حطني على جبل وأخذ قليلاً من التراب وهمهم عليه وتكلم وقال اخرج من هذه الصورة إلى صورة قرد .
فمنذ ذلك الوقت صرت قرداً ابن مائة سنة فلما رأيت نفسي في هذه الصورة القبيحة بكيت على روحي وصبرت على جور الزمان وعلمت أن الزمان ليس لأحد وانحدرت من أعلى الجبل إلى أسفله وسافرت مدة شهر ، ثم ذهبت إلى شاطئ البحر المالح ، فوقفت ساعة وإذا بمركب في وسط البحر قد طاب ريحها وهي قاصدة البر ، فاختفيت خلف صخرة على جانب البحر وسرت إلى أن أتيت وسط المركب .
فقال واحد منهم : أخرجوا هذا المشؤوم من المركب ، وقال واحد منهم : نقتله ، وقال آخر : اقتله بهذا السيف .
فأمسكت طرف السيف وبكيت ، وسالت دموعي فحن علي الريس وقال لهم :
يا تجار إن هذا القرد استجار بي وقد أجرته وهو في جواري فلا أحد يعرض له ولا يشوش عليه .
ثم أن الريس صار يحسن إلي ومهما تكلم به أفهمه وأقضي حوائجه وأخدمه في المركب .
وقد طاب لها الريح مدة خمسين يوماً فرسينا على مدينة عظيمة ، وفيها عالم كثير لا يحصى عددهم إلا الله تعالى فساعة وصولنا أوقفنا مركبنا فجاءتنا مماليك من طرف ملك المدينة فنزلوا المركب وهنوا التجار بالسلامة ، وقالوا :
إن ملكنا يهنئكم بالسلامة وقد أرسل إليكم هذا الدرج الورق وقال كل واحد يكتب فيه سطرا .
فقمت وأنا في صورة القرد وخطفت الدرج من أيديهم ، فخافوا أني أقطعه وأرميه في الماء فنهروني وأرادوا قتلي فأشرت لهم أني أكتب فقال لهم الريس :
دعوه يكتب فإن لخبط الكتابة طردناه عنا وإن أحسنها اتخذته ولداً فإني ما رأيت قرداً أفهم منه .
ثم أخذ القلم واستمديت الحبر وكتبت سطراً بقلم الرقاع ورقمت هذا الشعر :
لقد كتب الدهر فضل الكرام ........ وفضلك للآن لايحـسـب
فلا أيتم الله منـك الـورى ........ لأنك للفضل نـعـم الأب
وكتبت بقلم الثلث هذين البيتين :
وما من كاتب إلاسيفـنـى ........ ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بخطك غير شيء ........ يسرك في القيامة أن تراه
وكتبت تحته بقلم المشق هذين البيتين :
إذا فتحت دواة العز والـنـعـم ........ فاجعل مدادك من جود ومن كرم
واكتب بخير إذا ما كنت مقتـدراً ........ بذاك شرفت فضلاً نسبه القلـم
ثم ناولتهم ذلك الدرج الورق فطلعوا به إلى الملك ، فلما تأمل الملك ما في ذلك الدرج لم يعجبه خط أحد إلا خطي ، فقال لأصحابه :
توجهوا إلى صاحب هذا الخط وألبسوه هذه الحلة وأركبوه بغلة وهاتوه بالنوبة وأحضروه بين يدي .
فلما سمعوا كلام الملك تبسموا فغضب منهم ثم قال :
كيف آمركم بأمر فتضحكون علي .
فقالوا : أيها الملك ما نضحك على كلامك ، بل الذي كتب هذا الخط قرد وليس هو آدميا وهو مع ريس المركب .
فتعجب الملك من كلامهم واهتز من الطرب ، وقال : أريد أن أشتري هذا القرد .
ثم بعث رسلاً إلى المركب ومعهم البغلة والحلة وقال :
لابد أن تلبسوه هذه الحلة وتركبوه البغلة وتأتوا به .
فساروا إلى المركب وأخذوني من الريس وألبسوني الحلة فاندهش الخلائق وصاروا يتفرجون علي ، فلما طلعوا بي للملك ورأيته قبلت الأرض ثلاث مرات فأمرني بالجلوس ، فجلست على ركبتي ، فتعجب الحاضرون من أدبي وكان الملك أكثرهم تعجباً ثم أن الملك أمر الخلق بالإنصراف فانصرفوا ، ولم يبق إلا الملك والطواشي ومملوك صغير وأنا ، ثم أمر الملك بطعام فقدموا سفرة طعام فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فأشار إلي الملك أن كل فقمت وقبلت الأرض بين يديه سبع مرات وجلست آكل معه وقد ارتفعت السفرة وذهبت فغسلت يدي وأخذت الدواة والقلم والقرطاس وكتبت هذين البيتين :
أتاجر الضأن ترياق من العلـل ........ وأصحن الحلو فيها منتهى أملي
يا لهف قلبي على مد السماط إذا ........ ماجت كنافته بالسمن والعسـل
ثم قمت وجلست بعيداً أنتظر الملك إلى ما كتبته وقرأه فتعجب وقال :
هذا يكون عند قرد هذه الفصاحة وهذا الخط والله إن هذا من أعجب العجب .
ثم قدم للملك شطرنج ، فقال لي الملك : أتلعب ؟
قلت برأسي : نعم .
فتقدمت وصففت الشطرنج ولعبت معه مرتين فغلبته فحار عقل الملك وقال :
لو كان هذا آدميا لفاق أهل زمانه .
ثم قال لخادمه : إذهب إلى سيدتك وقل لها : كلمي الملك حتى تجيء فتتفرج على هذا القرد العجيب .
فذهب الطواشي وعاد معه سيدته بنت الملك ، فلما نظرت إلي غطت وجهها ، وقالت :
يا أبي كيف طاب على خاطرك أن ترسل إلي فيراني الرجال الأجانب .
فقال : يا بنتي ما عندك سوى المملوك الصغير والطواشي الذي رباك وهذا القرد وأنا أبوك فممن تغطين وجهك .
فقالت : إن هذا القرد إبن ملك وإسم أبيه إيمار ، صاحب جزائر الأبنوس الداخلة وهو مسحور وسحره العفريت جرجريس الذي هو من ذرية إبليس ، وقد قتل زوجته بنت ملك أقناموس وهذا الذي تزعم أنه قردا إنما هو رجل عالم عاقل . فتعجب الملك من إبنته ونظر إلي وقال : أحق ما تقول عنك .
فقلت برأسي : نعم .
وبكيت فقال الملك : لبنته من أين عرفت أنه مسحور ؟
فقالت : يا أبت كان عندي وأنا صغيرة عجوز ماكرة ساحرة علمتني السحر ، وقد حفظته وأتقنته وعرفت مائة وسبعين بابا من أبوابه ، أقل باب منها أنقل به حجارة مدينتك خلف جبل قاف وأجعلها لجة بحر وأجعل أهلها سمكا في وسطه . فقال أبوها : بحق إسم الله عليك أن تخلصي لنا هذا الشاب ، حتى أجعله وزيري وهل فيك هذه الفضيلة ولم أعلم فخلصيه حتى أجعله وزيري لأنه شاب ظريف لبيب .
فقالت له : حباً وكرامة .
ثم أخذت بيدها سكينا ، وعملت دائرة .

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .


رد مع اقتباس
  #17  
قديم 10-03-2015, 12:30 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة الخامسة عشرة

تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية :
يا سيدتي ، ثم أن بنت الملك أخذت بيدها سكيناً مكتوباً عليها أسماء عبرانية ، وخطت بها دائرة في وسط وكتبت فيها أسماء وطلاسم وعزمت بكلام وقرأت كلاما ، لا يفهم ، فبعد ساعة أظلمت علينا جهات القصر ، حتى ظننا أن الدنيا قد إنطبقت علينا وإذا بالعفريت قد تدلى علينا في أقبح صفة بأيد كالمداري ورجلين كالصواري وعينين كمشعلين يوقدان ناراً ، ففزعنا منه . فقالت بنت الملك :
لا أهلاً بك ولا سهلاً .
فقال العفريت وهو في صورة أسد : يا خائنة كيف خنت اليمين أما تحالفنا على أن لا يعترض أحدنا للآخر .
فقالت له : يا لعين ومن أين لك يمين .
فقال العفريت : خذي ما جاءك ثم انقلب أسدا وفتح فاه وهجم على الصبية .
فأسرعت وأخذت شعرة من شعرها بيدها ، وهمهمت بشفتيها فصارت الشعرة سيفاً ماضياً وضربت ذلك الأسد فقطعته نصفين ، فصارت رأسه عقرباً ، وانقلبت الصبية حية عظيمة وهمهمت على هذا اللعين وهو في صفة عقرب ، فتقاتلا قتالاً شديداً ، ثم انقلب العقرب عقاباً فانقلبت الحية نسراً وصارت وراء العقاب واستمرا ساعة زمانية ثم انقلب العقاب قطاً أسود ، فانقلبت الصبية ذئبا فتشاحنا في القصر ساعة زمانية وتقاتلا قتالاً شديداً فرأى القط نفسه مغلوباً فانقلب وصار رمانة حمراء كبيرة ووقعت تلك الرمانة في بركة وانتثر الحب كل حبة وحدها وامتلأت أرض القصر حبا فانقلب ذلك الذئب ديكا لأجل أن يلتقط ذلك الحب حتى لا يترك منه حبة فبالأمر المقدر ، دارت حبة في جانب الفسقية فصار الديك يصيح ويرفرف بأجنحته ويشير إلينا بمنقاره ونحن لا نفهم ما يقول ، ثم صرخ علينا صرخة تخيل لنا منها أن القصر قد انقلب علينا ودار في أرض القصر كلها حتى رأى الحبة التي تدارت في جانب الفسقية فانقض عليها ليلتقطها وإذا بالحبة سقطت في الماء فانقلب الديك حماراً كبيراً ونزل خلفها وغاب ساعة وإذا بنا قد سمعنا صراخا عالياً فارتجفنا .
وبعد ذلك طلع العفريت وهو شعلة نار فألقى من فمه ناراً ومن عينيه ومنخريه ناراً ودخاناً وانقلبت الصبية لجة نار فاردنا أن نغطس في ذلك الماء خوفاً على أنفسنا من الحريق فما شعرنا إلا العفريت قد صرخ من تحت النيران وصار عندنا في الديوان ونفخ في وجوهنا بالنار فلحقته الصبية ونفخت في وجهه بالنار أيضاً فأصابنا الشرر منها ومنه ، فأما شررها فلم يؤذينا وأما شرره فلحقني منه شرارة في عيني فأتلفتها وأنا في صورة القرد ولحق الملك شرارة منه في وجهه فأحرقت نصفه التحتاني بذقنه وحنكه ووقفت أسنانه التحتانية ووقعت شرارة في صدر الطواشي فاحترق ومات من وقته وساعته فأيقنا بالهلاك وقطعنا رجائنا من الحياة .
فبينما نحن كذلك وإذا بقائل يقول : الله أكبر الله أكبر قد فتح ربي ونصر وخذل من كفر بدين محمد سيد البشر .
وإذا بالقائل بنت الملك قد أحضرت العفريت فنظرنا إليه فرأيناه قد صار كوم رماد ، ثم جاءت الصبية وقالت إلحقوني بطاسة ماء فجاؤوا بها فتكلمت عليها بكلام لا نفهمه ثم رشتني بالماء وقالت :
أخلص بحق الحق وبحق إسم الله الأعظم إلى صورتك الأولى .
فصرت بشراً كما كنت أولاً ولكن تلفت عيني . فقالت الصبية :
النار يا والدي .
ثم أنها لم تزل تستغيث من النار وإذا بشرر أسود قد طلع إلى صدرها وطلع إلى وجهها فلما وصل إلى وجهها بكت وقالت :
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله .
ثم نظرنا إليها فرأيناها كوم رماد بجانب كوم العفريت فحزنا عليها وتمنيت لو كنت مكانها ولا أرى ذلك الوجه المليح الذي عمل في هذا المعروف يصير رماداً ولكن حكم الله لا يرد . فلما رأى الملك أبنته صارت كوم رماد نتف لحيته ولطم على وجهه وشق ثيابه وفعلت كما فعل وبكينا عليها ثم جاء الحجاب وأرباب الدولة فوجدوا السلطان في حالة العدم وعنده كوم رماد فتعجبوا وداروا حول الملك ساعة فلما أفاق أخبرهم بما جرى لإبنته مع العفريت فعظمت مصيبتهم وصرخ النساء والجواري وعملوا العزاء سبعة أيام .
ثم إن الملك أمر أن يبني على رماد ابنته قبة عظيمة وأوقد فيها الشموع والقناديل وأما رماد العفريت فإنهم أذروه في الهواء إلى لعنة الله ثم مرض السلطان مرضاً أشرف منه على الموت واستمر مرضه شهراً وعادت إليه العافية فطلبني وقال لي :
يا فتى قد قضينا زماننا في أهنأ عيش آمنين من نوائب الزمان حتى جئنا فأقبلت علينا الأكدار فليتنا ما رأيناك ولا رأينا طلعتك القبيحة التي لسببها صرنا في حالة العدم ، فأولاً عدمت ابنتي التي كانت تساوي مائة رجل وثانياً جرى لي من الحريق ما جرى وعدم أضراسي ومات خادمي ولكن ما بيدك حيلة بل جرى قضاء الله علينا وعليك والحمد لله حيث خلصتك إبنتي وأهلكت نفسها ، فاخرج يا ولدي من بلدي وكفى ما جرى بسببك وكل ذلك مقدر علينا وعليك ، فاخرج بسلام .
فخرجت يا سيدتي من عنده وما صدقت بالنجاة ولا أدري أين أتوجه ، وخطر على قلبي ما جرى لي وكيف خلوني في الطريق سالماً منهم ومشيت شهراً وتذكرت دخولي في المدينة واجتماعي بالخياط واجتماعي بالصبية تحت الأرض وخلاصي من العفريت بعد أن كان عازماً على قتلي وتذكرت ما حصل لي من المبدأ إلى المنتهى فحمدت الله وقلت :
بعيني ولا بروحي .
ودخلت الحمام قبل أن أخرج من المدينة وحلقت ذقني وجئت يا سيدتي وفي كل يوم أبكي وأتفكر المصائب التي عاقبتها تلف عيني ، وكلما أتذكر ما جرى لي أبكي وأنشد هذه الأبيات :
تحيرت والرحمن لاشك في أمري ........ وحلت بي الأحزان من حيث لا أدري
سأصبر حتى يعلم الصـبر أنـني ........ صبرت على شيء أمر من الصبـر
وما أحسن الصبر الجميل مع التقى ........ وما قدر المولى على خلقه يجـري
سرائر سري ترجمـان سـريرتي ........ إذا مات سر السر سرك في سـري
ولو أن ما بي بالجبـال لـهدمت ........ وبالنار أطفأهـا والـريح لـم يسـر
ومن قال أن الـدهر فـيه حلاوة ........ فلا بد من يوم أمـر مـن الـمـر
ثم سافرت الأقطار ووردت الأمصار وقصدت دار السلام بغداد لعلي أتوصل إلى أمير المؤمنين وأخبره بما جرى ، فوصلت إلى بغداد هذه الليلة فوجدت أخي هذا الأول واقفاً متحيراً فقلت : السلام عليك وتحدثت معه وإذا بأخينا الثالث قد أقبل علينا وقال : السلام عليكم أنا رجل غريب فقلنا : ونحن غريبان وقد وصلنا هذه الليلة المباركة .
فمشينا نحن الثلاثة وما فينا أحد يعرف حكاية أحد فساقتنا المقادير إلى هذا الباب ودخلنا عليكم وهذا سبب حلق ذقني وتلف عيني .
فقالت له : إن كانت حكايتك غريبة فامسح على رأسك واخرج في حال سبيلك .
فقال : لا أخرج حتى أسمع حديث رفيقي .
فتقدم الصعلوك الثالث وقال :
أيتها السيدة الجليلة ما قصتي مثل قصتهما بل قصتي أعجب وذلك أن هذين جاءهما القضاء والقدر وأما أنا فسبب حلق ذقني وتلف عيني أنني جلبت القضاء لنفسي والهم لقلبي وذلك أني كنت ملكاً ابن ملك ، ومات والدي وأخذت الملك من بعده وحكمت وعدلت وأحسنت للرعية وكان لي محبة في السفر في البحر وكانت مدينتي على البحر والبحر متسع وحولنا جزائر معدة للقتال . فأردت أن أتفرج على الجزائر فنزلت في عشرة مراكب وأخذت معي مؤونة شهر وسافرت عشرين يوماً .
ففي ليلة من الليالي هبت علينا رياح مختلفة إلى أن لاح الفجر فهدأ الريح وسكن البحر حتى أشرقت الشمس ، ثم أننا أشرفنا على جزيرة وطلعنا إلى البر وطبخنا شيئا نأكله فأكلنا ثم أقمنا يومين وسافرنا عشرين يوماً فاختلفت علينا المياه وعلى الريس استغرب الريس البحر فقلنا للناطور :
انظر البحر بتأمل .
فطلع على الصاري ثم نزل الناطور وقال للريس : رأيت عن يميني سمكاً على وجه الماء ونظرت إلى وسط البحر فرأيت سوادا من بعيد يلوح تارة أسود وتارة أبيض .
فلما سمع الريس كلام الناطور ضرب الأرض بعمامته ونتف لحيته وقال للناس :
ابشروا بهلاكنا جميعاً ولا يسلم منا أحد .
وشرع يبكي وكذلك نحن الجميع نبكي على أنفسنا فقلت :
أيها الريس أخبرنا بما رأى الناطور .
فقال : يا سيدي أعلم أننا تهنا يوم جاءت علينا الرياح المختلفة ولم يهدأ الريح إلا بكرة النهار ثم أقمنا يومين فتهنا في البحر ولم نزل تائهين أحد عشر يوماً من تلك الليلة وليس لنا ريح يرجعنا إلى ما نحن قاصدون آخر النهار وفي غد نصل إلى جبل من حجر أسود يسمى حجر المغناطيس وتجرنا المياه غصباً إلى جهته ، فيتمزق المركب ويروح كل مسمار في المركب إلى الجبل ويلتصق به لأن الله وضع حجر مغناطيس سراً وهو أن جميع الحديد يذهب إليه وفي ذلك الجبل حديد كثير لا يعلمه إلا الله تعالى حتى أنه تكسر من قديم الزمان مراكب كثيرة بسبب ذلك الجبل ويلي ذلك البحر قبة من النحاس الأصفر معمودة على عشرة أعمدة وفوق القبة فارس على فرس من نحاس وفي يد ذلك الفارس رمح من النحاس ومعلق في صدر الفارس لوح من رصاص منقوش عليه أسماء وطلاسم فيها أيها الملك ما دام هذا الفارس راكباً على هذه الفرس تنكسر المراكب التي تفوت من تحته ويهلك ركابها جميعاً ويلتصق جميع الحديد الذي في المركب بالجبل وما الخلاص إلا إذا وقع هذا الفارس من فوق تلك الفرس .
ثم إن الريس يا سيدتي بكى بكاء شديد فتحققنا أننا هالكون لا محالة وكل منا ودع صاحبه . فلما جاء الصباح قربنا من تلك الجبل وساقتنا المياه إليه غصباً ، فلما صارت المياه تحته انفتحت وفرت المسامير منها وكل حديد فيها نحو حجر المغناطيس ونحن دائرون حوله في آخر النهار وتمزقت المراكب فمنا من غرق ومنا من سلم ولكن أكثرنا غرق والذين سلموا لم يعلموا ببعضهم لأن تلك الأمواج واختلاف الأرياح أدهشتهم .
وأما أنا يا سيدتي فنجاني الله تعالى لما أراده من مشقتي وعذابي وبلوتي ، فطلعت على لوح من الألواح فألقاه الريح والموج إلى جبل فأصبت طريقاً متطرفاً إلى أعلاه على هيئة السلالم منقورة في الجبل فسميت الله تعالى .


وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 10-03-2015, 12:31 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة السادسة عشرة


تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك الثالث قال للصبية والجماعة مكتفون والعبيد واقفين بالسيوف على رؤوسهم :
ثم أني سميت الله ودعوته وابتهلت إليه وحاولت الطلوع على الجبل وصرت أتمسك بالنقر التي فيه حتى أسكن الله الريح في تلك الساعة وأعانني على الطلوع فطلعت سالماً على الجبل وفرحت بسلامتي غاية الفرح ولم يكن لي دأب إلا القبة فدخلتها وصليت فيها ركعتين شكراً لله على سلامتي ثم إني نمت تحت القبة ، فسمعت قائلاً يقول :
يا ابن خصيب إذا انتهيت من منامك ، فاحفر تحت رجليك قوساً من نحاس وثلاث نشابات من رصاص منقوشاً عليها طلاسم فخذ القوس والنشابات وارم للفارس الذي على القبة وارح الناس من هذا البلاء العظيم فإذا رميت الفارس يقع في البحر ويقع القوس من يدك فخذ القوس ، وادفنه في موضعه ، فإذا فعلت ذلك يطفو البحر ويعلو حتى يساوي الجبل ، ويطلع عليه زورق فيه شخص غير الذي رميته فيجيء إليك وفي يده مجذاف ، فاركب معه ولا تسم الله تعالى فإنه يحملك ويسافر بك مدة عشرة أيام إلى أن يوصلك إلى بلدك وهذا غنما يتم لك إن لم تسم الله .
ثم استيقظت من نومي ، وقمت بنشاط وقصدت الماء ، كما قال الهاتف وضربت الفارس فرميته فوقع في البحر ووقع القوس من يدي فأخذت القوس ودفنته فهاج البحر وعلا حتى ساوى الجبل الذي أنا عليه فلم ألبث غير ساعة حتى رأيت زورقا في وسط البحر يقصدني فحمدت الله تعالى فلما وصل إلي الزورق وجدت فيه شخصاً من النحاس صدره لوح من الرصاص ، منقوش بأسماء وطلاسم ، فنزلت في الزورق وأنا ساكت لا أتكلم فحملني الشخص أول يوم والثاني والثالث إلى تمام عشرة أيام حتى جزائر السلامة ففرحت فرحاً عظيماً ومن شدة فرحي ذكرت الله وسميت وهللت وكبرت فلما فعلت ذلك قذفني من الزورق في البحر ثم رجع في البحر وكنت أعرف العوم فعمت ذلك اليوم إلى الليل حتى كلت سواعدي وتعبت أكتافي وصرت في الهلكات ثم تشهدت وأيقنت بالموت وهاج البحر من كثرة الرياح فجاءت موجة كالقلعة العظيمة ، فحملتني وقذفتني قذفة صرت بها فوق البر ، فطلعت البر وعصرت ثيابي ونشفتها على الأرض وبت .
فلما أصبحت لبست ثيابي وقمت أنظر أين أمشي فوجدت غوطة فجئتها ودرت حولها فوجدت الموضع الذي فيه جزيرة صغيرة ، والبحر محيط بها ، فقلت في نفسي كلما أخلص من بلية أقع في أعظم منها فبينما أنا متفكر في أمري أتمنى الموت إذ نظرت مركباً فيها ناس ، فقمت وطلعت على شجرة وإذا بالمركب التصقت بالبر وطلع منها عشرة عبيد معهم مساحي فمشوا حتى وصلوا إلى وسط الجزيرة وحفروا في الأرض وكشفوا عن طابق فرفعوا الطابق وفتحوا بابه ، ثم عادوا إلى المركب ونقلوا منها خبزا ودقيقا وسمناً وعسلاً وأغناماً وجميع ما يحتاج إليه الساكن وصار العبيد مترددين بين المركب وباب الطابق وهم يحولون من المركب وينزلون في الطابق إلى أن نقلوا جميع ما في المركب .
ثم بعد ذلك طلع العبيد ومعهم ثياب أحسن ما يكون وفي وسطهم ، شيخ كبير هرم قد عمر زمناً طويلاً وأضعفه الدهر ، حتى صار فانياً ويد ذلك الشيخ في يد صبي قد أفرغ في قالب الجمال وألبس حلة الكمال حتى أنه يضرب بحسنه الأمثال وهو كالقضيب الرطب يسحر كل قلب بجماله ويسلب كل لب بكماله فلم يزالوا يا سيدتي سائرين حتى أتوا إلى الطابق ونزلوا فيه ، وغابوا عن عيني . فلما توجهوا قمت ونزلت من فوق الشجرة ومشيت إلى موضع الردم ، ونبشت التراب ونقلته وصبرت نفسي حتى أزلت جميع التراب فانكشف الطابق فإذا هو خشب مقدار حجر الطاحون فرفعته فبان من تحته سلم معقود من حجر فتعجبت من ذلك ونزلت السلم حتى إنتهيت إلى آخره فوجدت شيئاً نظيفاً ووجدت بستاناً وثانياً إلى تمام تسعة وثلاثين وكل بستان أرى فيه ما يكل عنه الواصفون من أشجار وأنهار وأثمار وذخائر . ورأيت بابا فقلت في نفسي ما الذي في هذا المكان ، فلابد أن أفتحه وأنظر ما فيه ثم فتحته فوجدت فيه فرساً مسرجاً ملجماً مربوطاً ففككته وركبته فطار بي إلى حطني على سطح وأنزلني وضربني بذيله فأتلف عيني وفر مني فنزلت من فوق السطح فوجدت عشرة شبان عور فلما رأوني قالوا :
لا مرحبا بك .
فقلت لهم : أتقبلوني أجلس عندكم .
فقالوا : والله لا تجلس عندنا .
فخرجت من عندهم حزين القلب باكي العين ، وكتب الله لي السلامة حتى وصلت إلى بغداد فحلقت ذقني وصرت صعلوكاً فوجدت هذين الإثنين العورين فسلمت عليهما وقلت لهما : أنا غريب ، فقالا : ونحن غريبان فهذا سبب تلف عيني ، وحلق ذقني .
فقالت له : أمسح على رأسك وروح .
فقال : لا أروح حتى أسمع قصة هؤلاء .
ثم أن الصبية التفتت إلى الخليفة وجعفر ومسرور وقالت لهم : أخبروني بخبركم .
فتقدم جعفر وحكى لها الحكاية التي قالها للبوابة عند دخولهم فلما سمعت كلامه قالت :
وهبت بعضكم لبعض .
فخرجوا إلى أن صاروا في الزقاق فقال الخليفة للصعاليك :
يا جماعة إلى أين تذهبون ؟
فقالوا : ما ندري أين نذهب .
فقال لهم الخليفة : سيروا وبيتوا عندنا .
وقال لجعفر : خذهم وأحضرهم لي غداً ، حتى ننظر ما يكون .
فامتثل جعفر ما أمره به الخليفة .
ثم أن الخليفة طلع إلى قصره ولم يجئه نوم في تلك الليلة فلما اصبح جلس على كرسي المملكة ودخلت عليه أرباب الدولة ، فالتفت إلى جعفر بعد أن طلعت أرباب الدولة وقال ائتني بالثلاث صبايا والكلبتين والصعاليك ، فنهض جعفر وأحضرهم بين يديه فأدخل الصبايا تحت الأسنار .
والتفت لهن جعفر وقال لهن :
قد عفونا عنكن لما أسلفتن من الإحسان إلينا ولم تعرفنا فها أنا أعرفكن وأنتن بين يدي الخامس من بني العباس هارون الرشيد ، فلا تخبرنه إلا حقاً .
فلما سمع الصبايا كلام جعفر ، عن لسان أمير المؤمنين تقدمت الكبيرة وقالت :
يا أمير المؤمنين أن لي حديثاً لو كتب بالإبر على آفاق البصر لكان عبرة لمن اعتبر .


وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .


رد مع اقتباس
  #19  
قديم 10-03-2015, 12:32 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة السابعة عشرة

تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن كبيرة الصبايا ، لما تقدمت بين يدي أمير المؤمنين وقالت :
إن لي حديثاً عجيباً وهو أن هاتين الصبيتين أختاي من أبي من غير أمي فمات والدنا وخلف خمسة آلاف دينار وكنت أنا اصغرهن سناً فتجهزت أختاي وتزوجت كل واحدة برجل ومكثنا مدة ثم إن كل واحد من أزواجهما هيأ متجراً واخذ من زوجته ألف دينار وسافروا مع بعضهم ، وتركوني فغابوا أربع سنين وضيع زوجاهما المال ، وخسرا وتركاهما في بلاد الناس فجاءاني في هيئة الشحاتين .
فلما رأيتهما ذهلت عنهما ولم أعرفهما ثم إني لما عرفتهما ، قلت لهما :
ما هذا الحال ؟
فقالتا : يا أختاه إن الكلام لا يفيد الآن ، وقد جرى القلم بما حكم الله .
فأرسلتهما إلى الحمام وألبست كل واحدة حلة وقلت لهما :
يا أختي أنتما الكبيرة وأنا الصغيرة وأنتم عوض عن أبي وأمي والإرث الذي ناسي معكما قد جعل الله فيه البركة فكلا من زكاته وأحوالي جليلة وأنا وأنتما سواء .
وأحسنت إليهما غاية الإحسان فمكثا عندي مدة سنة كاملة وصار لهما مال من مالي فقالتا لي :
أن الزواج خير لنا وليس لنا صبر عنه .
فقلت لهما : يا أختي لم تريا في الزواج خيراً فإن الرجل الجيد قليل في هذا الزمان وقد اخترتما الزواج .
فلم يقبلا كلامي ، وتزوجا بغير رضاي فزوجتهما من مالي وسترتهما ومضتا مع زوجيهما فأقاما مدة يسيرة ولعب عليهما زوجهما وأخذ ما كان معهما وسافرا وتركاهما فجاءتا عندي وهما عاريتين واعتذرتا وقالتا :
لا تؤاخذينا ، فأنت أصغر منا سناً وأكمل عقلاً ، وما بقينا نذكر الزواج أبداً .
فقلت : مرحباً بكما يا أختي ما عندي أعز منكما .
وقبلتهما وزدتهما إكراماً ولم تزل على هذه الحالة سنة كاملة فأردت أن أجهز لي مركباً إلى البصرة ، فجهزت مركباً كبيرة وحملت فيها البضائع والمتاجر وما أحتاج إليه في المركب وقلت :
يا أختي هل لكما أن تقعدوا في المنزل حتى أسافر وأرجع أو تسافرا معي .
فقالتا : نسافر معك فإنا لا نطيق فراقك .
فأخذتهما وسافرنا ، وكنت قسمت مالي نصفين فأخذت النصف وخبأت النصف الثاني وقلت ربما يصيب المركب شيء ويكون في العمر مدة فإذا رجعنا نجد شيئاً ينفعنا .
ولم نزل مسافرين أياماً وليالي ، فتاهت بنا المركب وغفل الريس عن الطريق ودخلت المركب بحراً غير البحر الذي نريده ولم نعلم بذلك مدة ، وطاب لنا الريح عشرة أيام فلاحت لنا مدينة على بعد فقلنا للريس :
ما إسم هذه المدينة التي أشرفنا عليها ؟
فقال : والله لا أعلم ولا رأيتها قط ، ولا سلكت عمري هذا البحر ، ولكن جاء الأمر بسلامة فما بقي إلا أن تدخلوا هذه المدينة وتخرجوا بضائعكم فإن حصل لكم بيع فبيعوا .
وغاب ساعة ، ثم جاءنا وقال قوموا إلى المدينة وتعجبوا من صنع الله في خلقه واستعيذوا من سخطه فطلعنا المدينة فوجدنا كل من فيها مسخوطاً حجارة سوداء ، فاندهشنا من ذلك ومشينا في الأسواق فوجدنا البضائع باقية والذهب والفضة باقيين على حالهما ففرحنا وقلنا لعل هذا يكون له أمر عجيب ، وتفرقنا في شوارع المدينة وكل واحد اشتغل عن رفيقه بما فيها من المال والقماش . وأما أنا فطلعت إلى القلعة فوجدتها محكمة فدخلت قصر الملك فوجدت فيه جميع الأواني من الذهب والفضة ثم رأيت الملك جالساً وعنده حجابه ونوابه ووزرائه وعليه من الملابس شيء يتحير فيه الفكر فلما قربت من الملك وجدته جالساً على كرسي مرصع بالدر والجواهر فيه كل درة تضيء كالنجمة وعليه حلة مزركشة بالذهب وواقفاً حوله خمسون مملوكاً بين أنواع الحرير ، وفي أيديهم السيوف مجردة .
فلما نظرت لذلك دهش عقلي ثم مشيت ودخلت قاعة الحريم ، فوجدت في حيطانها ستائر من الحرير ووجدت الملكة عليها حلة مزركشة بالؤلؤ الرطب وعلى رأسها تاج مكلل بأنواع الجواهر وفي عنقها قلائد وعقوداً وجميع ما عليها من الملبوس والمصاغ باق على حاله وهي ممسوخة حجر أسود ووجدت باباً مفتوحاً فدخلته ووجدت فيه سلماً بسبع درج فصعدته ، فرأيت مكاناً مرخماً مفروشاً بالبسط المذهبة ووجدت فيه سرير من المرمر مرصعاً بالدر والجواهر ونظرت نوراً لامعاً في جهة فقصدتها فوجدت فيها جوهرة مضيئة قدر بيض النعامة على كرسي صغير ، وهي تضيء كالشمعة ، ونورها ساطع ومفروش على ذلك السرير من أنواع الحرير ما يجعل الناظر يحير . فلما نظرت إلى ذلك تعجبت ورأيت في ذلك المكان شموعاً موقدة فقلت في نفسي : لابد أن أحداً أوقد هذه الشموع ، ثم إني مشيت حتى دخلت موضعاً غيره وصرت أفتش في تلك الأماكن ونسيت نفسي مما أدهشني من التعجب من تلك الأحوال ، واستغرق فكري إلى أن دخل الليل فأردت الخروج فلم أعرف الباب وتهت عنه فعدت إلى الجهة التي فيها الشموع الموقدة وجلست على السرير وتغطيت بلحاف بعد أن قرأت شيئاً من القرآن وأوردت النوم فلم أستطع ولحقني القلق .
فلما انتصف الليل سمعت تلاوة القرآن بصوت حسن رقيق فالتفت إلى مخدع فرأيت بابه مفتوحاً فدخلت الباب ونظرت المكان فإذا هو معبد وفيه قناديل معلقة موقدة وفيه سجادة مفروشة جالس عليها شاب حسن المنظر فتعجبت كيف هو سالم دون أهل المدينة فدخلت وسلمت عليه فرفع بصره ورد علي السلام فقلت له :
أسألك بحق ما تتلوه من كتاب الله أن تجيبني عن سؤالي .
فتبسم وقال : أخبريني عن سبب دخولك هذا المكان وأنا أخبرك بجواب ما تسألينه عنه .
فأخبرته بخبري فتعجب من ذلك ، ثم إنني سألته عن خبر هذه المدينة فقال :
أمهليني .
ثم طبق المصحف وادخله كيس من الأطلس وأجلسني بجنبه فنظرت إليه فإذا هو كالبدر حسن الأوصاف لين الأعطاف بهي المنظر رشيق القد أسيل الخد زهي الجنات كأنه المقصود من هذه الأبيات :
رصد النجم ليلـه فـبـدا لـه ........ قد المليح يمـيس فـي بـرديه
وأمـد زحـل ســواد ذوائب ........ والمسك هادي الخال في خديه
وغدت من المريخ حمرة خـده ........ والقوس يرمي النبل من جفنيه
وعطارد أعطاه فـرط ذكـائه ........ وأبى السها نظر الوشـاة إلـيه
فغدا المنجم حائراً مـمـا أرى ........ والأرض باس الأرض بين يديه
فنظرت له نظرة أعقبتني ألف حسرة وأوقدت بقلبي كل جمرة فقلت له :
يا مولاي أخبرني عما سألتك .
فقال سمعاً وطاعة .
أعلمي أن هذه المدينة مدينة والدي وجميع أهله وقومه وهو الملك الذي رأيته على الكرسي ممسوخاً حجراً وأما الملكة التي رأيتها فهي أمي وقد كانوا مجوساً يعبدون النار دون الملك الجبار وكانوا يقسمون بالنار والنور والظل والخرور والفلك الذي يدور وكان أبي ليس له ولد فرزق بي في آخر عمره فرباني حتى نشأت وقد سبقت لي السعادة ، وكان عندنا عجوز طاعنة في السن مسلمة تؤمن بالله ورسوله في الباطن وتوافق أهلي في الظاهر وكان أبي يعتقد فيها لما يرى عليها من الأمانة والعفة وكان يكرمها ويزيد في إكرامها وكان يعتقد أنها على دينه .
فلما كبرت سلمني أبي إليها وقال : خذيه وربيه وعلميه أحوال ديننا وأحسني تربيته وقومي بخدمته .
فأخذتني العجوز وعلمتني دين الإسلام من الطهارة والوضوء والصلاة وحفظتني القرآن فلما أتمت ذلك قالت لي :
يا ولدي أكتم هذا الأمر عن أبيك ولا تعلمه به لئلا يقتلك .
فكتمته عنه ولم أزل على هذا الحال مدة أيام قلائل وقد ماتت العجوز وزاد أهل المدينة في كفرهم وعتوهم وضلالهم .
فبينما هم على ما هم فيه إذ سمعوا منادياً ينادي بأعلى صوته مثل الرعد القاصف سمعه القريب والبعيد يقول :
يا أهل المدينة أرجعوا عن عبادة النار واعبدوا الملك الجبار .
فحصل عند أهل المدينة فزع واجتمعوا عند أبي وهو ملك المدينة وقالوا له :
ما هذا الصوت المزعج الذي سمعناه فاندهشنا من شدة هوله .
فقال لهم لا يهولنكم الصوت ولا يردعنكم عن دينكم .
فمالت قلوبهم إلى قول أبي ولم يزالوا مكبين على عبادة النار واستمروا على طغيانهم مدة سنة حتى جاء ميعاد ما سمعوا الصوت الأول فظهر لهم ثانياً فسمعوا ثلاث مرات على ثلاث سنين في كل سنة مرة فلم يزالوا عاكفين على ما هم عليه حتى نزل عليهم المقت والسخط من السماء بعد طلوع الفجر ، فمسخوا حجارة سودا وكذلك دوابهم وأنعامهم ولم يسلم من أهل هذه المدينة غيري ، ومن يوم ما جرت هذه الحادثة وأنا على هذه الحالة في صلاة وصيام وتلاوة قرآن وقد يئست من الوحدة وما عندي من يؤنسني .
فعند ذلك قلت له : أيها الشاب هل لك أن تروح معي إلى مدينة بغداد وتنظر إلى العلماء وإلى الفقهاء فتزداد علماً وفقهاً وأكون أنا جاريتك مع إني سيدة قومي وحاكمة على رجال وخدم وغلمان ، وعندي مركب مشحون بالمتجر وقد رمتنا المقادير على هذه المدينة حتى كان ذلك سبباً في إطلاعنا على هذه الأمور وكان النصيب في إجتماعنا .
ولم أزل أرغبه في التوجه حتى أجابني إليه .


وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 10-03-2015, 12:33 AM
اميرة عبد الدايم اميرة عبد الدايم غير متواجد حالياً
خبير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2015
المشاركات: 18,882
افتراضي الليلة الثامنة عشرة

تكمله حكاية الحمال مع البنات


قالت شهرزاد :

بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية ما زالت تحس الشاب للتوجه معها حتى غلب عليها النوم فنامت تلك الليلة تحت رجليه وهي لا تصدق بما هي فيه من الفرح ، ثم قالت :
فلما أصبح الصباح قمنا ودخلنا إلى الخزائن وأخذنا ما خف حمله وغلا ثمنه ونزلنا من القلعة إلى المدينة فقابلنا العبيد والريس وهم يفتشون علي فلما رأوني فرحوا بي وسألوني عن سبب غيابي فأخبرتهم بما رأيت وحكيت لهم قصة الشاب وسبب مسخ أهل هذه المدينة وما جرى لهم فتعجبوا من ذلك .
فلما رأتني أختاي ومعي ذلك الشاب حسدتاني عليه وصارتا في غيظ وأضمرتا المكر لي .
ثم نزلنا المركب وأنا بغاية الفرح وأكثر فرحي بصحبة هذا الشاب وأقمنا ننتظر الريح حتى طابت لنا الريح فنشرنا القلوع وسافرنا فقعدت أختاي عندنا وصارت تتحدثان فقالتا لي :
يا أختاه ما تصنعين بهذا الشاب الحسن ؟
فقلت لهما : قصدي أن اتخذه بعلاً .
ثم التفت إليه وأقبلت عليه وقلت : يا سيدي أنا أقصد أن أقول لك شيئاً فلا تخالفني فيه .
فقال سمعاً وطاعة .
ثم التفت إلى أختاي وقلت لهما : يكفيني هذا الشاب وجميع هذه الأموال لكما .
فقالتا : نعم ما فعلت .
ولكنهما أضمرتا لي الشر ، ولم نزل سائرين مع اعتدال الريح حتى خرجنا من بحر الخوف ودخلنا بحر الأمان وسافرنا أياما قلائل إلى أن قربنا من مدينة البصرة ولاحت لنا أبنيتها ، فأدركنا المساء فلما أخذنا النوم قامت أختاي وحملتاني أنا والغلام ورمتانا في البحر ، فأما الشاب فإنه كان لا يحسن العوم فغرق وكتبه الله من الشهداء . وأما أنا فكنت من السالمين ، فلما سقطت في البحر رزقني الله بقطعة من خشب فركبتها وضربتني الأمواج إلى أن رمتني على ساحل جزيرة فلم أزل أمشي في الجزيرة باقي ليلتي فلما أصبح الصباح رأيت طريقاً فيه أثر مشي على قدر ابن آدم وتلك الطريق متصلة من الجزيرة إلى البر وقد طلعت الشمس فنشفت ثيابي فيها وسرت في الطريق ولم أزل سائرة إلى أن قربت من البر الذي فيه المدينة وإذا بحية تقصدني وخلفها ثعبان يريد هلاكها وقد تدلى لسانها من شدة التعب .
فأخذتني الشفقة عليها فقعدت إلى حجر وألقيته على رأس الثعبان فمات من وقته فنشرت الحية جناحين وصارت في الجو فتعجبت من ذلك وقد تعبت فنمت في موضعي ساعة ، فلما أفقت وجدت تحت رجلي جارية وهي تكبس رجلي فجلست واستحيت منها وقلت لها :
من أنت وما شانك ؟
فقالت : ما أسرع ما نسيتني أنت التي فعلت معي الجميل وقتلت عدوي ، فإني الحية التي خلصتيني من الثعبان جني وهو عدوي وما نجاني منه إلا أنت ، فلما نجيتيني منه طرت في الريح وذهبت إلى المركب التي رماك منها أختاك ونقلت جميع ما فيها إلى بيتك وأحرقتها وأما أختاك فإني سحرتهما كلبتين من الكلاب السود ، فإني عرفت جميع ما جرى لك معهما ، وأما الشاب فإنه غرق .
ثم حمتلني أنا والكلبتين والقتنا فوق سطح داري فرأيت جميع ما كان في المركب من الأموال في وسط بيتي ولم يضع منه شيء ، ثم أن الحية قالت لي :
وحق النقش الذي على خاتم سليمان إذا لم تضربي كل واحدة منها في كل يوم ثلاثمائة سوط لآتين أجعلك مثلهما .
فقلت : سمعاً وطاعة .
فلم أزل يا أمير المؤمنين أضربها ذلك الضرب وأشفق عليهما .
فتعجب الخليفة من ذلك ثم قال للصبية الثانية :
وأنت ما سبب الضرب الذي على جسدك ؟
فقالت : يا أمير المؤمنين إني كان لي والد مات وخلف مالاً كثيراً ، فأقمت بعده مدة يسيرة وتزوجت برجل اسعد أهل زمانه فأقمت معه سنة كاملة ومات فورثت منه ثمانين ألف دينار ، فبينما أنا جالسة في يوم من الأيام إذ دخلت علي عجوز بوجه مسقوط وحاجب ممغوط وعيونها مفجرة وأسنانها مكسرة ومخاطها سائل وعنقها مائل كما قال فيها الشاعر :
عجوز النحس إبليس يراها ........ تعلمه الخديعة من سكوت
تقود من السياسة ألف بغل ........ إذا انفردوا بخيط العنكبوت
فلما دخلت العجوز علمت علي وقالت :
أن عندي بنتا يتيمة والليلة عملت عرسها وأنا قصدي لك الأجر والثواب فاحضري عرسها فأنها مكسورة الخاطر ليس لها إلا الله تعالى .
ثم بكت وقبلت رجلي فأخذتني الرحمة والرأفة فقلت :
سمعاً وطاعة .
فقالت : جهزي نفسك فإني وقت العشاء أجي وآخذك .
ثم قبلت يدي وذهبت فقمت وهيأت نفسي وجهزت حالي وإذا بالعجوز قد أقبلت وقالت :
يا سيدتي أن سيدات البلد قد حضرن وأخبرتهن بحضورك ففرحن وهن في انتظارك .
فقمت وتهيأت وأخذت جواري معي وسرت حتى أتينا إلى زقاق هب فيه النسيم وراق فرأينا بوابة مقنطرة قبة من الرخام مشيدة البنيان وفي داخلها قصر قد قام من التراب وتعلق بالسحاب فلما وصلنا إلى الباب طرقته العجوز ففتح لنا ودخلنا فوجدنا دهليزاً مفروشاً بالبسط معلقاً فيه قناديل موقدة وشموع مضيئة وفيه الجواهر والمعادن معلقة فمشينا في الدهليز إلى أن دخلنا القاعة فلم يوجد لها نظير مفروشة بالفراش الحرير معلقاً فيها القناديل الموقدة والشموع المضيئة وفي صدر القاعة سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر وعليه ناموسية من الأطلس وإذا بصبية خرجت من الناموسية مثل القمر فقالت لي :
مرحباً وأهلاً وسهلاً يا أختي آنستيني وجبرت خاطري وأنشدت تقول :
لو تعلم الدار من زارها فرحـت ........ واستبشرت ثم باست موضع القدم
وأعلنت بلسـان الـحـال قـائلة ........ أهلاً وسهلاً بأهل الجود والكرم
ثم جلست وقالت :
يا أختي أن لي أخاً وقد رآك في الأفراح وهو شاب احسن مني وقد أحبك قلبه حباً شديداً وأعطى هذه العجوز دراهم حتى أتتك وعملت الحيلة لأجل اجتماعه بك ويريد أخي أن يتزوجك بسنة الله ورسوله وما في الحلال من عيب .
فلما سمعت كلامها ورأيت نفسي قد انحجزت في الدار فقلت للصبية :
سمعاً وطاعة .
ففرحت وصفقت بيدها وفتحت باباً ، فخرج منه شاب مثل القمر كما قال الشاعر :
قد زاد حسناً تبارك الـلـه ........ جل الذي صاغـه وسـواه
قد حاز كل الجمال منفـرداً ........ كل الورى في جماله تهواه
قد كتب الحسن فوق وجنتيه ........ أشهد أن لا مليح سـواه
فلما نظرت إليه مال قلبي له ثم جاء وجلس وإذا بالقاضي قد دخل ومعه أربعة شهود فسلموا وجلسوا ، ثم أنهم كتبوا كتابي على ذلك الشاب وانصرفوا فالتفت الشاب إلي وقال :
ليلتنا مباركة .
ثم قال : يا سيدتي أني شارط عليك شرطاً .
فقلت : يا سيدي وما الشرط ؟
فقام وأحضر لي مصحفاً وقال : احلفي لي أنك لا تختاري أحداً غيري ولا تميلي إليه .
فحلفت له على ذلك ففرح فرحاً شديداً وعانقني فأخذت محبته بمجامح قلبي وقدموا لنا السماط فأكلنا وشربنا حتى اكتفينا فدخل علينا الليل .
فأخذني ونام معي على الفراش وبتنا في عناق إلى الصباح ، ولم نزل على هذه الحالة مدة شهر ، ونحن في هناء وسرور وبعد الشهر استأذنته في أن أسير إلى السوق وأشتري بعض قماش فأذن لي في الرواح ، فلبست ثيابي وأخذت العجوز معي ونزلت في السوق فجلست على دكان تاجر تعرفه العجوز وقالت لي :
هذا ولد صغير مات أبوه وخلف مالاً كثيراً .
ثم قالت له : هات أعز ما عندك من القماش لهذه الصبية .
فقال لها : سمعاً وطاعة .
فصارت العجوز تثني عليه فقلت : ما لنا حاجة بثنائك عليه لأن مرادنا أن نأخذ حاجتنا منه ونعود إلى منزلنا .
فأخرج لنا ما طلبناه وأعطيناه الدراهم فأبى أن يأخذ شيئاً وقال :
هذه ضيافتكما اليوم عندي .
فقلت للعجوز : إن لم يأخذ الدراهم أعطه قماشه .
فقال : والله لا آخذ شيئا والجميع هدية من عندي في قبلة واحدة فإنها عندي أحسن من ما في دكاني .
فقالت العجوز : ما الذي يفيدك من القبلة ؟
ثم قالت : يا بنتي قد سمعت ما قال هذا الشاب وما يصيبك شيء إن أخذ منك قبلة وتأخذين ما تطلبينه .
فقلت لها : أما تعرفين أني حالفة .
فقالت : دعيه يقبلك وأنت ساكتة ولا عليك شيء وتأخذين هذه الدراهم .
ولازالت تحسن لي الأمر حتى أدخلت رأسي في الجراب ورضيت بذلك ثم إني غطيت عيني وداريت بطرف إزاري من الناس وحط فمه تحت إزاري على خدي فما أن قبلني حتى عضني عضة قوية ، حتى قطع اللحم من خدي فغشي علي ثم آخذتني العجوز في حضنها .
فلما أفقت وجدت الدكان مقفولة والعجوز تظهر لي الحزن ، وتقول :
ما دفع الله كان أعظم .
ثم قالت لي : قومي بنا إلى البيت وأعملي نفسك ضعيفة وأنا أجيء إليك بدواء تداوين به هذه العضة فتبرئين سريعاً .
فبعد ساعة قمت من مكاني وأنا في غاية الفكر واشتداد الخوف ، فمشيت حتى وصلت إلى البيت وأظهرت حالة المرض وإذا بزوجي داخل وقال :
ما الذي أصابك يا سيدتي في هذا الخروج ؟
فقلت له : ما أنا طيبة .
فنظر إلي وقال لي : ما هذا الجرح الذي بخدك وهو في المكان الناعم ؟
فقلت : لما استأذنتك وخرجت في هذا النهار لأشتري القماش زاحمني جمل حامل حطباً فشرط نقابي وجرح خدي كما ترى فإن الطريق ضيق في هذه المدينة .
فقال : غداً أروح للحاكم وأشكوا له فيشنق كل حطاب في المدينة .
فقلت : بالله عليك لا تتحمل خطيئة أحد فإني ركبت حماراً نفر بي فوقعت على الأرض فصادفني عود فخدش خدي وجرحني .
فقال : غدا أطلع لجعفر البرمكي وأحكي له الحكاية فيقتل كل حَمار في هذه المدينة .
فقلت : هل أنت تقتل الناس كلهم بسببي وهذا الذي جرى لي بقضاء الله وقدره .
فقال : لابد من ذلك .
وشدد علي ونهض قائماً وصاح صيحة عظيمة فانفتح الباب وطلع منه سبعة عبيد سود فسحبوني من فراشي ورموني في وسط الدار ثم أمر عبداً منهم أن يمسكني من أكتافي ، ويجلس على رأسي وأمر الثاني أن يجلس على ركبتي ويمسك رجلي وجاء الثالث وفي يده سيف فقال :
يا سيدي أضربها بالسيف فأقسمها نصفين وكل واحد يأخذ قطعة يرميها في بحر الدجلة فيأكلها السمك وهذا جزاء من يخون الإيمان المودة وأنشد هذا الشعر :
إذا كان لي فيمن أحب مـشـارك ........ منعت الهوى روحي ليتلفني وجدي
وقلت لها يا نفس موتـي كـريهة ........ فلا خير في حب يكون مع الضـد
ثم قال للعبد : اضربها يا سعد .
فجرد السيف وقال : اذكري الشهادة وتذكري ما كان لك من الحوائج واوصي .
ثم رفعت رأسي ونظرت إلى حالي وكيف صرت في الذل بعد العز فجرت عبرتي وبكيت أنشدت هذه الأبيات :
أقمتم فؤادي في الهوى وقعدتـم ........ وأسهرتم جفني القريح ونمـتـم
ومنزلكم بين الفؤاد ونـاظـري ........ فلا القلب يسلوكم ولا الدمع يكتم
وعاهدتموني أن تقيموا على الوفا ........ فلما تملكتم فـؤادي غـدرتـم
ولم ترحموا وجدي بكم وتلهفـي ........ أأنتم صروف الحادثات أمنـتـم
سألتكم بالله أن مت فاكتبـوا ........ على لوح قبري أن هذا متيم
لعل شجياً عارفاً لوعة الهوى ........ يمر على قبر المحب فيرحم
فلما فرغت من شعري بكيت فلما سمع الشعر ونظر إلى بكائي أزداد غيظاً على غيظه وأنشد هذين البيتين :
تركت حبيب القلب لاعن ملانة ........ ولكن جنى ذنباً يؤدي إلى الترك
إذا ارى شريكاً في المحبة بيننـا ........ وإيمان قلبي لا يميل إلى الشرك
فلما فرغ من شعره بكيت واستعطفته ، وإذا بالعجوز قد دخلت ورمت نفسها على أقدام الشاب وقبلتها وقالت :
يا ولدي بحق تربيتي لك تعفو عن هذه الصبية فإنها ما فعلت ذنباً يوجب ذلك وأنت شاب صغير فأخاف عليك من دعائها .
ثم بكت العجوز ، ولم تزل تلح عليه حتى قال :
عفوت عنها ، ولكن لابد لي أن أعمل فيها أثراً يظهر عليها بقية عمرها .
ثم أمر العبيد فجذبوني من ثيابي وأحضر قضيبا من سفرجل ونزل به على جسدي بالضرب ، ولم يزل يضربني ذلك الشاب على ظهري وجنبي حتى غبت عن الدنيا من شدة الضرب وقد يئست من حياتي ثم أمر العبيد أنه إذا دخل الليل يحملونني ويأخذون العجوز معهم ويرمونني في بيتي الذي كنت فيه سابقاً . ففعلوا ما أمرهم به سيدهم ورموني في بيتي ، فتعاهدت نفسي وتداويت فلما شفيت بقيت أضلاعي كأنها مضروبة بالمقارع ، كما ترى فاستمريت في مداواة نفسي أربعة أشهر حتى شفيت ، ثم جئت إلى الدار التي جرت لي فيها ذلك الأمر فوجدتها خربة ووجدت الزقاق مهد وما من أوله إلى آخره ووجدت في موقع الدار كيماً ولم أعلم سبب ذلك فجئت إلى أختي هذه التي من أبي فوجدت عندها هاتين الكلبتين فسلمت عليها وأخبرتها بخبري وبجميع ما جرى لي .
فقالت : من ذا الذي من نكبات الزمان سلم ، الحمد لله الذي جعل الأمر بسلامة .
ثم أخبرتني بخبرها وبجميع ما جرى لها من أختيها وقعدت أنا وهي لا نذكر خبر الزواج على ألسنتنا ثم صاحبتنا هذه الصبية الدلالة في كل يوم تخرج فتشتري لنا ما نحتاج إليه من المصالح على جري علاتها ، فوقع لنا ما وقع من مجيء الجمال والصعاليك ومن مجيئكم في صفة تجار فلما صرنا في هذا اليوم ولم نشعر إلا نحن بين يديك وهذه حكايتنا .
فتعجب الخليفة من هذه الحكاية وجعلها تاريخها مثبتا في خزانته .

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .


رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:06 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.